ابتهال لدمعة ابتهال
لا أعرف الدكتورة ابتهال الخطيب شخصيا، ولم اتشرف بلقائها، ولا يمنعني ذلك من إبداء إعجابي الكبير بطرحها لمفهوم الدولة المدنية وجرأتها في هذا الطرح، الذي يجد لدى القلة قبولا ولدى البعض قبولا ظاهرا ورفضا مستترا ولدى الأكثرية رفضا قاطعا. الدولة المدنية هي دولة الدستور الذي يضمن المساواة لجميع المقيمين على أرض الدولة لا للذين ينتمون لجنسيتها فقط أو الذين ينتمون لطائفة من طوائفها أو قبيلة من قبائلها أو منطقة من مناطقها. في الدولة المدنية يتساوى المواطن والمقيم أمام القانون الذي أوكل للسلطة التشريعية بتشريعه وأوكل للسلطة التنفيذية بتنفيذه وبالسلطة القضائية كسلطة مستقلة للحكم به. ونحن نعلم أن الجميع يعتقد أنه يؤمن بهذا الطرح ويتفق عليه، ولكنه اعتقاد يتم نفيه في أول امتحان يتعرض له المواطن أو المقيم. فمن يتعرض لمخالفة مرورية يسعى جاهدا لاسقاط المخالفة عنه، وقس على ذلك ما هو أكبر من المخالفة المرورية. فالمواطن الذي يطبق القانون هو المواطن الذي لم يجد سبيلا لعدم تطبيق القانون.ثقافة الدولة المدنية والايمان بها يواجهها البعض بصراخ ما هو دينك؟ ما هو مذهبك؟ من أي قبيلة أو عائلة أنت؟ في الدولة المدنية لا يحق لك أن تسألني عن مذهبي أو عقيدتي أو جنسيتي أو حتى موقفي السياسي، وعملي هو هويتي وايماني بالعقد الاجتماعي الذي ينظم علاقتي بالآخر هو عقيدتي، وأنا وأنت يحكمنا القانون الذي قبلنا به ولا يميز بيننا لعرق أو جنس أو دين أو مكانة اجتماعية. لك الحرية في ابداء رأيك ولي الحرية في الرد عليك دون المساس بكرامتك ودون أن تمس كرامتي. وايمان الدكتورة ابتهال الخطيب بهذه الدولة المدنية، والتي تبدو صعبة المنال عربيا، جاء ليكرس موقفها من قضية الانسان بغض النظر عن أصل هذا الانسان أو فصله وبغض النظر عن عرقه أو لونه أو مذهبه. وقفت مع الأخوة البدون وهم يطرحون قضيتهم الانسانية في بلدهم الذي عاشوا فيه أعمارهم وأعمار آبائهم في وقت تفرغ فيه الآخرون لتحقيق مكاسبهم الشخصية والفئوية والطائفية بعيدا عن مصلحة الوطن الذي يجتمع الناس تحت مظلته.
حين وقفت ابتهال وهي تخبئ دموعها وتخفي المنظر الغريب على مجتمعها المدني بيديها، كانت تنظر في تلك اللحظة الى كل تلك المبادئ التي آمنت بها ودافعت عنها قولا وكتابة وهي تهتز دون سبب واضح. لو أننا نجحنا في تحقيق مبادئ الدولة المدنية وثقفنا المجتمع ثقافة مدنية تلغي عصبية الفرد لقبيلته وطائفته وتلغي افتخاره حتى بمكان سكنه، لو أننا نجحنا بوضع مسطرة قانونية يقف أمامها الناس سواسية لا فرق بينهم لتلاشت هذه النظرة الضيقة لمفهوم المواطنة. هذه النظرة التي جعلت القبلي في موقع المسؤولية يضع قبيلته أولا والطائفي يضع طائفته نصب عينيه والمناطقي يضع أبناء منطقته أما القانون والعدالة الاجتماعية والمساواة فهي عبارات لا تتجاوز الفم الذي يتشدق بها.لو استطعنا منذ البداية أن نتخلص من السؤال المريض الذي نبدأ به حواراتنا مع الآخر: من أنت؟ لتخلصنا من جميع مشاكلنا ولم يكن هناك ما يبكي ابتهال الخطيب وغير ابتهال الخطيب من الذين يبحثون عن مجتمع القانون فيه فوق الجميع والقضاء هو ملاذ المتضرر. لو نجحنا في تأسيس دولة مدنية حقيقية وترسيخ مفهومها في عقول أجيالنا لما كانت لدينا مشاكل لا حصر لها ابتداء من المحسوبية وانتهاء بمشكلة البدون.