لعبت جماعة "الإخوان المسلمين" دوراً مشهوداً له، على مدى ثلاثة عقود خلت، في معارضة نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك، ودفعت أثماناً باهظة بسبب تلك المعارضة، وهي الأثمان التي كانت محل تقدير الجماعة الوطنية المصرية، رغم اعتراض قوى عديدة فيها على المنحى الإقصائي والتمييزي الذي تتخذه الجماعة خلال ممارستها للعمل السياسي.

Ad

بسبب الارتكاز الديني الضيق لـ"الإخوان المسلمين" في مصر، والذي يرهنهم لتفسيرات وتأويلات أكثر انغلاقاً من المفترض، وتحت الضربات الأمنية والإعلامية الساحقة لهم، كانت جماعتهم، خلال العهود السابقة، أكثر تقوقعاً وتمحوراً حول الذات، وأشد تمسكاً بمرجعيتها الأيديولوجية، وأكثر تماسكاً أيضاً، رغم انطوائها على تيارات وأطياف عديدة.

ورغم أنماط الانتهاز السياسي الواضحة في سلوك الجماعة منذ اندلاع ثورة يوليو 1952، والتي تبدت في المساومات والاتفاقيات مع عبدالناصر، فالسادات، ثم حسني مبارك، وأخيراً اللواء عمر سليمان، خلال الفترة من 25 يناير إلى 11 فبراير الماضيين؛ فإن القوى السياسية المصرية أمكنها دوماً تفهم طبيعة الضغوط التي تعرضت لها "الجماعة"، وربما وجدت لها بعض الأعذار في مساوماتها من أجل البقاء.

ولم ينل موقف "الإخوان" المعارض للخروج والتظاهر يوم 25 يناير الماضي، أو محاولتهم "التفاهم" مع عمر سليمان خلال الفترة التي تم تفويضه فيها صلاحيات الرئيس، من تفهم المجال السياسي المصري لسلوكهم، ومحاولة التعاون معهم بشكل كامل لإنجاز مرحلة التحول الديمقراطي، وصولاً إلى انتخابات نزيهة، يحدد فيها التصويت أنصبة كل فصيل سياسي في مؤسسات الحكم، خصوصاً أنهم لعبوا دوراً مهماً مع اندلاع "جمعة الغضب"، وخلال "موقعة الجمل" الشهيرة، في فترة اشتعال الأحداث قبل إطاحة مبارك مباشرة.

واستناداً إلى ذلك، فقد باركت القوى السياسية المصرية كلها حصول "الإخوان" على حزب، يكون ذراعاً سياسية للجماعة، تمكنها من خوض الانتخابات، والمشاركة بشكل مشروع ومقنن في كل العمليات والأنشطة السياسية، رغم ارتكازها الديني، والذي يبدو مناقضاً لقواعد العمل السياسي الذي أرسته الدساتير المصرية كلها منذ بواكير القرن المنصرم.

لكن الأداء السياسي للجماعة منذ إطاحة مبارك لم يكن مطمئناً أو مدروساً أو إيجابياً، بل ظهر كخليط من الاستعلاء والجموح والتضارب وإقصاء الآخرين، سواء كانوا من المنافسين السياسيين أو من المتباينين أو "الخارجين على الخط" من أعضاء الجماعة نفسها. لقد بدت الجماعة مثل عائلة متقشفة مضطهدة، ظلت تعاني الإقصاء والتهميش والغبن لعقود طويلة، ثم هبطت عليها ثروة كبيرة مفاجئة، وبدلاً من أن تتعاطى معها بمسؤولية وتحسب، وتزيل بها آثار الاضطهاد السابقة، وتتمركز بين غيرها من العائلات بتكافؤ وندية وتعاون، راحت تنتقم من سنوات الاضطهاد، ولعبت برأسها التطلعات، وأخذها الجموح بعيداً.

فمن مشاركة في "البرلمان" تراوح ما بين 25% إلى 30%، أخذت النسب التي تنوي الجماعة الحصول عليها ترتفع إلى أن وصلت 75%، حيث قال أحد قادتها قبل أسابيع: "يمكننا أن ننافس على ثلاثة أرباع المقاعد، لكننا لن نفعل، لنترك فرصة للآخرين".

كانت النزعة الإقصائية واضحة، حينما رحبت الجماعة ترحيباً حاراً بزيارة أردوغان الأخيرة لمصر، خاصة أنها تحدثت عن مشروعه طويلاً في محاولتها لتقديم نموذج ملهم يشجع الجمهور المصري على التصويت لها في الانتخابات المختلفة ويطمئنه على قدرتها على الإنجاز، لكن بمجرد أن صرح رئيس الوزراء التركي بكونه "مسلماً يحكم دولة علمانية"، وأن العلمانية هي خيار أساسي للدولة التركية، راحت الجماعة تنتقده بشدة، بل أهانه بعض أبنائها.

أمر مشابه حدث مع المرشح الرئاسي الوجيه عبدالمنعم أبوالفتوح الذي قاطعته الجماعة رغم أنه أحد قادتها السابقين، بل فصلت بعض أبنائها من الشبان الذي أعلنوا تأييدهم له في الانتخابات الرئاسية المنتظرة. وفي غضون ذلك، راحت الأحاديث تتوالى من قيادات في الجماعة عن "امتلاك الأرض وتطبيق الحدود"، و"صبغ المجتمع بصبغة الإسلام"، و"تطبيق الشريعة"، وغيرها من الأحاديث المقلقة للقوى السياسية والاجتماعية المختلفة.

ولعل الانسحابات المتعاقبة من قبل قوى سياسية مختلفة من "التحالف الديمقراطي" الذي أسسته الجماعة مع غيرها من الأحزاب والتيارات لخير دليل على خشونة التوجهات الإخوانية والرغبة في الانفراد بالساحة، خاصة أن معظم المنسحبين أكدوا بوضوح أن سبب انسحابهم يرجع إلى رغبة الجماعة في الاستئثار بكل ثمار التحالف وإلقاء الفتات إلى الشركاء.

أما آخر الإشكالات التي تفجرها الجماعة في المجال السياسي المصري عشية الانتخابات المصيرية المنتظرة في 28 من شهر نوفمبر المقبل، فيتعلق بإصرار بعض قادتها على استخدام شعار "الإسلام هو الحل" في الانتخابات، وهو شعار ديني بامتياز كما يتضح من كلماته، وقد جرمت اللجنة العليا للانتخابات استخدامه، وتعهدت بشطب المرشحين الذين يستخدمونه.

لكن عدداً من قيادات الجماعة والحزب المنبثق عنها (الحرية والعدالة) يؤكدون بإصرار أنهم سيستخدمون الشعار نفسه، ويستند بعضهم إلى أن المحكمة الإدارية العليا سبق أن أقرت استخدام الشعار في انتخابات مجلس الشورى (الغرفة الثانية في البرلمان) عام 2007، بينما يدفع بعضهم بحجة غريبة مفادها أن شعار "الإسلام هو الحل" سياسي وليس دينياً (...).

والواقع أن طبيعة الجسم القضائي في مصر، وعوامل كثيفة ومتباينة أنتجتها الحالة الدينية في البلاد، يمكن أن تساعد على صدور حكم يتيح استخدام هذا الشعار، لكن أي تقدير سياسي سليم يعرف جيداً أن "الإسلام هو الحل" ليس سوى شعار ديني، وأنه إنما يستدعي بالضرورة شعارات مناقضة قد تكون "المسيحية هي الحل" أو "البهائية هي الحل" أو حتى "اليهودية هي الحل".

يعرف "الإخوان" أن استخدام الشعار في أجواء الدولة الاستبدادية كان يتم كإجراء غير رشيد في مواجهة قمع غير رشيد، وأن سحب المجتمع إلى التنابذ بالأديان والمذاهب في هذا التوقيت بالذات لن يعود على البلاد بخير، كما يعرفون أن الأجواء الجديدة في مصر تريد وتسمح بمنافسة سياسية موضوعية دون إقصاء أو تهميش لأحد.

يجب على "إخوان الشعار" أن يتركوا "شعار الإخوان" الملتبس، وأن ينخرطوا في منافسة سياسية جادة وموضوعية، يقدم فيها المنافسون برامج مفصلة لحل مشكلات البلاد المزمنة، عبر كلام وحلول للبطالة والطبابة والتعليم وتنمية الموارد والسياسة الخارجية والأمن، لا عبر التلاعب بالمشاعر الدينية.

مصر تعي قيمة الإسلام وتضعه في أعلى المراتب وأقدسها، لكنها لم تقم بثورة لكي تنظم انتخابات يتنافس أبناؤها فيها على ما إذا كان "الإسلام حلاً" أم لا، بل لكي تنتقل إلى الحداثة، عبر دولة وطنية مدنية، يملك ساستها حلولاً عملية لمشاكل صعبة، وليس مجرد شعارات لتخدير البسطاء واستغلال عواطفهم الدينية.

*كاتب مصري