شهدت البحرين ندوة: «الأمن الوطني والإقليمي لدول مجلس التعاون: رؤية من الداخل» بمشاركة نخبة من أهل الرأي والبحث بدول مجلس التعاون. كانت الندوة برعاية الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة، نائب رئيس الوزراء، ومشاركة الأمير تركي الفيصل بن عبدالعزيز، والدكتور عبداللطيف الزياني الأمين العام لمجلس التعاون، والفريق ضاحي خلفان، وكاتب هذه السطور، وقد نظم الندوة الدكتور محمد عبدالغفار رئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة، وفيما يلي مساهمة الكاتب:

Ad

«نحن نعيش زمن المتغيرات والمستجدات، ولدى النظر في مسألة الأمن الوطني والأمن الإقليمي لدول مجلس التعاون، بمنطقة الخليج العربي، فإن المسلمات التقليدية لأمن المنطقة بحاجة إلى مراجعة وإعادة نظر، ولا يبقى ثابتاً غير الارتباط بين الأمن الوطني والأمن الإقليمي، فكلاهما جزءٌ لا يتجزأ من الآخر، وقد توصلت إلى ذلك مناطق كأوروبا وماليزيا وصار لزاماً على دول الخليج العربية انتهاج الطريق، وقد كانت النظرة التقليدية لهذا الموضوع تتركز حول حماية الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الغربية لأمن المنطقة، وقد يكون ذلك صحيحاً حتى اللحظة الراهنة، لكنه عرضة للتغيير في المستقبل القريب، وذلك لثلاثة أسباب مجتمعة:

السبب الأول: التراجع التاريخي للقوة. وهذه مسألة تاريخية متعلقة بظاهرة تراجع القوى الكبرى على المسرح الدولي، وبعبارة أخرى: إن الغرب تتراجع قوته بحكم منطق التاريخ، ولكن تبقى مصالحه الاقتصادية التي لا بد أن يراعيها ويدافع عنها والاستعداد الأميركي لبيع الطائرات المتقدمة للمملكة العربية السعودية وتقديم التسهيلات الدفاعية لدولة الإمارات العربية المتحدة، والمسارعة البريطانية لمخاطبة الرياض بهذا الشأن إن كان يعكس موقفاً سياسياً، فإنه بالدرجة الأولى تعبير عن مصالح اقتصادية.

السبب الثاني: أن هذه الدول الغربية، بحكم إدراكها لظاهرة تراجع قوتها، تفكر في تغيير سياستها والتزاماتها بشأن الأمن الدولي بما في ذلك أمن الخليج. فتلك الالتزامات مكلفة، ولم تعد إمكاناتها المتاحة تتحملها، وحسب الخطط العسكرية الأميركية الجديدة، فإن واشنطن بصدد سحب الآلاف من جنودها من أوروبا.

أما السبب الثالث: فبحكم بروز قوى جديدة منافسة أخرى، وبحكم المصالح المتنامية لهذه القوى، تسأل القوى القديمة نفسها: لماذا تدافع عن مصالح الآخرين؟ أو لماذا لا تترك لدول المنطقة تدبر حماية نفسها في زمن متغيّر لم تعد فيه دول المنطقة تتقبّل الخضوع الكلي لإرادة القوى الحامية؟ إن هذا التغير لم يحدث بعد، لكنه مرشح للحدوث في وقت قريب، ومن الحكمة توقع حدوثه، فهو من المستجدات المحتملة.

أما الملمح الثاني في هذه الصورة المتغيرة، فيتمثل ببروز تهديدات محلية من الداخل تهدد الأمن الوطني والإقليمي، ففي عدد من دول المجلس، جاءت تهديدات داخلية تخل بالأمن الوطني في هذه الدولة أو تلك، وذلك ما دفع دول المجلس إلى التصرف بصورة جماعية لدرء الخطر، وإلى تفعيل قوات «درع الجزيرة» لتنفيذ مهام دفاعية محددة تستدعيها طبيعة الموقف.

وتسعى إيران، على الجانب الآخر من الخليج، إلى دعم تلك التحركات المناوئة بالإعلام أو بغيره... وإيران جارة مسلمة وهي قوة باقية دائماً، لكن الفارق في طبيعة النظام الذي يحكمها.

فإن جاء نظام يرغب في المشاركة في التنمية الجارية، وفي الرخاء الاقتصادي الذي تنشده شعوب المنطقة، فلابد أن يشجع التعايش السلمي بين دولها، وإيران دولة غنية بإمكانها الاسهام في مثل هذه التنمية السلمية.

وإن جاء نظام إيديولوجي يرغب في السيطرة بإثارة تلك المكونات في الجانب الآخر، فإن المواجهة هي قدر الجميع، ولن يكسب منها أحد.

وبحكم التكوين القومي والمذهبي لإيران، فإنها ستبقى على تمايز مع الوجود العربي في الجزيرة العربية والخليج، وإن جنح حكامها إلى السلم، وهي مسألة بحاجة إلى دراسات مستفيضة.

وثمة لاعب آخر جديد، بالنسبة إلى أمن الشرق الأوسط والخليج هو اللاعب التركي الذي من المبكر إصدار حكم نهائي على دوره الذي ينظر إليه البعض كموازن لقوة إيران وفي البداية بدت تركيا قريبة من إيران، ولكن توالت مؤشرات أخرى على حدوث تباعد بين القوتين يحرص الطرفان على عدم ظهوره للعلن، وتركيا التي تُطرح نموذجاً للتوافق بين الإسلام والعلمانية حفاظاً على الدولة المدنية القائمة، وهي مسألة مهمة عربياً للغاية في اللحظة الراهنة، ينبغي تأييده ودعمه عربياً وإسلامياً، إلا أن تركيا تخوض صراعات إثنية مع الأكراد والأرمن، وذلك ما يعرقل صورتها الديمقراطية والإنسانية، ومن المتوقع أن تقف تركيا إلى جانب دول مجلس التعاون نظراً لمصالحها الاقتصادية حيث نمو الاقتصاد التركي من البواعث للسياسة التركية.

بعد ذلك، نجد في موضوع أمن الخليج والجزيرة العربية ثنائية التواجد الهندي- الباكستاني.

ومنذ التقسيم في شبه القارة الهندية عام 1947، نشأ نزاع قوي بين الهند وباكستان ووقعت بينهما عدة حروب انتهت الأخيرة منها بتقسيم باكستان، وقيام دولة بنغلادش في الشرق بدعم هندي وسوفياتي. ومن مصلحة دول الخليج العربية أن يسود السلام بين باكستان والهند، فذلك ما ينبغي أن نسعى إليه، حيث يوجد في منطقتنا عدد كبير من العمالة الوافدة من البلدين واستمرار النزاع بينهما يمكن أن ينعكس على بلداننا، فقد تستغله أطراف أخرى للتدخل فيها. ونظراً لقرب كل من الهند وباكستان من منطقة الخليج العربي، فإن ذلك يجعل كلاً منهما في وضع جغرافي أفضل لمواجهة أي قوة تهدد الأمن الخليجي، وبإمكان البحريتين، الهندية والباكستانية ردع أي قوة أخرى تهدف إلى المساس بإحدى دول الخليج العربي، وهذه مسألة جديرة بالاهتمام.

ومن مصلحة دول الخليج تشجيع «التعددية» في الهند وعدم النظر اليها كدولة هندوكية معادية للإسلام، ففي الهند ملايين من المسلمين يفوقون سكان الخليج العربي عدداً، وهم أهل اعتدال وتوسط ولم تُلمس في أغلبيتهم ميول إرهابية.

وربما كان من المفيد إقامة صلات طيبة معهم في سبيل تطوير «الإسلام المعاصر» في لحظة تاريخية يتصدى فيها «الإسلاميون العرب» لمسؤولية الحكم في عدد من البلاد العربية.

هذا في الوقت الذي ينبغي فيه أن تحرص دول الخليج العربية على علاقات متوازنة مع باكستان المسلمة المتحمسة دوماً للحقوق العربية، وعلى الهند وباكستان الإدراك أن استمرار الصراع بين أي طرفين مسألة غير مجدية للطرفين.

ثم تبقى الصين كقوة صاعدة في الشرق، وهي المرشحة لأن ترث الولايات المتحدة في النفوذ الدولي، ولهذا السبب فقد طوقتها الولايات المتحدة بطوق عسكري استراتيجي.فمن الغرب الهند، وهي قوة صاعدة تنافس الصين، ومن الشرق اليابان، وهي قوة لا يستهان بها، وكانت لها امتدادات عسكرية إمبراطورية في الشرق الأقصى والصين خلال القرن العشرين.

ورغم أنه علاقة تلمذة حضارية تقوم من جانب اليابان حيال الصين، فإن الشعبين الجارين لا يحملان مشاعر ود متبادلة، وإلى الجنوب من الصين هناك القوة الأسترالية وهي قوة غريبة، تتمدد اليوم آسيوياً لمسايرة العصر، ولكن مشاعرها الحاكمة والمؤثرة مشاعر غربية.

إن هذه القوى الآسيوية الثلاث: الهند واليابان وأستراليا متحالفة مع الولايات المتحدة حيال الصين، وثمة نزاع معلق على جزر في بحر الصين الجنوبي تدعي الدول المجاورة لها- كبيرها وصغيرها- ملكيتها.

ويتساءل المرء: هذه المصالح الاقتصادية الصينية الهائلة في إفريقيا وفي الخليج، ألن تتطلب في النهاية حماية عسكرية؟

وقد انضمت روسيا، أخيراً، إلى الصين في تحدي السياسة الأميركية في العالم، وعلينا أن نميز في الموقف الصيني تجاه الولايات المتحدة بين اعتبارين: الاعتبار الأول اقتصادي، والصين التي يحتل اقتصادها المرتبة الثانية في العالم بعد الاقتصاد الأميركي، حالياً، مازالت تراعي الولايات المتحدة اقتصادياً وتتعاون معها إلى حد ما. ولكن يختلف الأمر تماماً في الجانب السياسي والعسكري، حيث يمكن القول إن ثمة تحدياً صينياً سياسياً وعسكرياً للولايات المتحدة التي أشرنا إلى خلافها مع الصين.

ويتحدث بعض خبراء الاستراتيجية عن تحالف روسي صيني- إيراني «خفي» في الساحة الدولية.

ويتمثل ذلك بالدعم الروسي والصيني للنظام السوري، وتلك مسألة استراتيجية بالغة الأهمية لإيران، إلا أن الموقف الروسي والصيني من دول الخليج العربية يمكن النظر إليه من وجهة بترولية واقتصادية وتجارية، فالمصالح الروسية والصينية مع هذه الدول تتطلب موقفاً سياسياً داعماً، وذلك ما يعوّل عليه.

وثمة معلومات أن المملكة العربية السعودية، كبرى دول مجلس التعاون، قد لوحت بالورقة الصينية لواشنطن، قبل إرسال قوات «درع الجزيرة» إلى مملكة البحرين، وأن بكين قد رحبت بإيجابية بالوفد السعودي، رفيع المستوى، الذي قصدها لهذا الغرض.

وكانت الولايات المتحدة حينئذ متأرجحة في تقديرها ورؤيتها، ومدى دعمها بين طرفي النزاع، كما أن الموقف الروسي من أحداث البحرين يبدو أقرب إلى الموقف الخليجي الرسمي بين مؤشرات عدة.

ونصل في النهاية إلى مربط الفرس في بحثنا هذا. أن اعتماد دول الخليج على الذات في الدفاع عن نفسها هو غاية المطلوب، وقد أثبت مجلس التعاون لدول الخليج العربية قدرته الدفاعية، بالتعاون مع أصدقائه، في حرب تحرير دولة الكويت، ثم في حماية المنشآت الحيوية بمملكة البحرين بما مكّنها من تجاوز الأزمة.

وفي قمة الرياض الخليجية الأخيرة، دعا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية التي هي كما أشرنا كبرى دول المجلس، إلى تحويل التعاون إلى اتحاد، أيدها جميع قادة دول المجلس، خصوصاً الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البحرين.

وهي دعوة جديرة بكل تأييد ودعم، ونعتقد أنها تحظى بدعم الشعوب بالمجلس، ولا بد من دراستها بشمولية، فما «حك جلدك مثل ظفرك»، وثمة قضايا لمجلس التعاون لابد من معالجتها، وقد طرحها الأمير تركي الفيصل بن عبدالعزيز في بحثه القيّم بهذه الندوة.

* مفكر من البحرين