الثورة الشعبية في مصر

Ad

 لم تصبني الدهشة عندما قام خمسة آلاف مصري بتظاهرة في ميدان مصطفى محمود تأييداً للرئيس المصري السابق، وفي الوقت نفسه كان "ميدان التحرير" والميادين الأخرى في عواصم محافظات مصر، تذخر بهدير ملايين البشر، تهتف في صوت واحد، وفي وقت واحد، وبشعار واحد، أبهر العالم كله في ثورة بيضاء ناصعة تطالب برحيل النظام السابق ورموزه، وبالحرية والعدالة والديمقراطية.

الثورة والقناصة وموقعة الجمل

لم تصبني الدهشة، عندما أطلق زبانية النظام السابق من القناصة التابعين للشرطة، الذين صعدوا أسطح وزارة الداخلية والبنايات بميدان التحرير ليطلقوا الرصاص على المتظاهرين، في الوقت الذي كانت مدرعات الأمن المركزي وسياراته المصفحة بدون أرقام تقتل كل من في طريقها في هذا الميدان لفض المظاهرات.

ولكن كانت دهشتي كبيرة عندما نجحت الثورة، بلا قيادة، إلا قيادة شعب أصر بكامله على تحقيق أهدافها، أو الموت دونها، وقد تحمل سنوات طويلة من القهر والظلم والاستبداد، وعندما نجحت الثورة بهذه الدماء القليلة التي سالت في الميادين والتي لا يزيد عدد الشهداء والمصابين فيها على بضع مئات.

ولم تصبني الدهشة، عندما استخدم النظام في يوم الثامن والعشرين من يناير، زبانيته من راكبي الجمال والأحصنة، لاقتحام ميدان التحرير وترويع جموع المواطنين وقتل من يصادفهم تحت سنابك الخيل والجمال.

الثورة كانت حلماً بعيد المنال

لقد كانت هذه الثورة بالنسبة لي على الأقل، حلماً بعد المنال، تخشاه النخبة التي ظلت تطالب بالتغيير وبنزاهة الانتخابات ومحاسبة المسؤولين عن الفساد على مدار السنوات العشر الماضية والنظام ماضٍ في انحرافه وفساده، ليضم إلى صفوفه المرتزقة من المسجلين خطر وأصحاب السوابق، الذين كانوا يحولون بين أبناء الشعب المصري واستخدامهم حقهم في الترشيح والانتخاب، فقتلوا من قتلوا من المرشحين في بعض الدوائر والناخبين في دوائر أخرى.

ليحولوا دون إدلائهم بأصواتهم، في الوقت الذي كانت أجهزة الأمن تسوِّد بطاقات الانتخاب ليفوز بشرف النيابة من الشعب من لا يستحقون هذا الشرف.

نعم لقد كان نجاح هذه الثورة الشعبية حلماً بعيد المنال كان قد يكلف الشعب مليون شهيد أو أكثر، في ظل هذه القبضة الحديدية لأجهزة أمن النظام ومليون ونصف المليون من جنود الأمن المركزي، وآلاف المرتزقة، الذين يعيشون على فتات موائد الفساد التي نهبت أراضي هذا الشعب وأمواله كالخفافيش التي لا تعيش إلا في الظلام.

ولكنها إرادة الله، قبل إرادة الشعب التي قالت كلمتها وأصرت على نجاح الثورة، و(إذا الشعب يوماً أراد الحياة/ فلابد للقيد أن ينكسر/ ولابد لليل أن ينجلي)، وقد أصبحت إرادة شعب، وليس حلم شاعر.

الجيش المصري حمى الثورة

وكان جيش مصر جزءاً من نسيج هذا الشعب... فقد نزلت قواته إلى الميادين والشوارع الرئيسية، بأمر من الرئيس السابق، بعد انسحاب قوات الشرطة والأمن المركزي لإشاعة الفوضى في ظل انفلات أمني.

ولكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة المشير حسين طنطاوي، قال للرئيس السابق، لا، لن نطلق النار على المتظاهرين، ولو اقتحموا عليك أسوارك المحصنة، التي أقامها النظام السابق ليحمي الفساد الذي باركته، وكان لنجليك نصيب كبير فيه، فالكل أراد أن يثرى على حساب هذا الشعب الطيب.

قرار الجيش قرار ديمقراطي رائع

لقد كان قرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة قراراً ديمقراطياً رائعاً عندما طرح عليه المشير حسين طنطاوي أمر الرئيس إطلاق الرصاص على المتظاهرين ليصوت عليه بالاقتراع السري، فقد صوّت المجلس بلا للرئيس، وأعلن للشعب في أول بيان له أنه سيظل في حال انعقاد دائم، إلى أن تتحقق مطالب الشعب المشروعة.

وكان المشير حسين طنطاوي رائعاً، عندما أعلن نتيجة الاقتراع السري التي قالت للرئيس السابق، لن يضرب الجيش شعبه، حماية للدستور الذي ينص على أن الجيش ملك الشعب.

تعاطف بعض الكويتيين مع الرئيس السابق

لم تصبني الدهشة أن بعضاً من المواطنين في الكويت والخليجيين يتعاطفون مع الرئيس السابق، لكبر سنه، وبسبب حالته الصحية، أو وفاءً للرئيس الذي وقف ضد أطماع صدام حسن عند غزوه الكويت، وإن كانت المرة الوحيدة التي عبر فيها عن رأي شعبه ورأي الشرفاء من العرب من الخليج إلى المحيط، وهو رأي قلته في ندوة جمعية الخريجين "الغضب العربي" التي استضافتني يوم الأحد الموافق 13 فبراير-وهو الموعد الذي كان محددا لها قبل إعلان تخلي الرئيس عن منصبه، 11 فبراير- وهي ندوة عقدت تضامناً من الشعب الكويتي الأصيل مع الشعب المصري.

وقلت في هذه الندوة التي شرفت فيها بمشاركة الأخ العزيز النائب السابق عبدالله النيباري والدكتور محمد لطفي، إن موقف الرئيس السابق من غزو الكويت كان موقف الشعب المصري كله، ولم يكن موقفه إلا الموقف المشرف لأي رئيس مصري غيره، ويعبر عن إرادة شعبه انتصاراً للحق والعدل وهما أسمى الغايات وأغلاها.

الدهشة التي عقدت لساني

ولكن الدهشة عقدت لساني، منذ أن طالعت في الثامن والعشرين من مارس الماضي مقالاً لكاتبة بحرينية بعنوان "وما كان سيموت إلا شهيداً" واصفة طاغية العراق صدام حسين بهذا الوصف، وظلت الدهشة تعقد لساني إلى أن حل الله عقدته في الثاني من أغسطس في الذكرى العربية المؤلمة الحادية والعشرين لغزو الطاغية الفاجر للكويت... وللحديث عن هذا المقال بقية في الأسبوع القادم، إن كان في العمر بقية.