لشاعر الإسكندرية اليوناني العظيم "قسطنطين كفافيس-Constantin Cavafy" 1863-1933 مقطع من قصيدة يقول:

Ad

"ليس هناك يا صديقي أرض جديدة

ولا بحر جديد

ستتبع المدينة"

أي مدينة تلك التي ستتبع أحدنا أينما سافر وحيثما حلَّ؟ وأي أحداث وأخبار ستركض خلفنا، تصرّ على تتبع خطونا، والانصباب فوق رؤوسنا، وذرّ الملح على جروحنا المفتوحة؟ إنه زمن الفضاء المفتوح، وزمن الصورة والإعلام والقنوات الفضائية، وزمن الكمبيوتر والتلفون النقال الذي يحيط بك من كل جانب، يكاد يحصي عليك خطوك وأنفاسك، ويجعلك رغماً عنك مشدودا بحبال الوصل والاهتمام إلى كل ما تحاول الهرب منه.

إن الحدث الإعلامي العالمي، العسكري والسياسي والاقتصادي والعلمي والاجتماعي والفني والرياضي، صار زاداً للحظة الإنسانية العابرة، وغدا أمام أحدنا خياران لا ثالث لهما: فإما أن يكون جزءاً من الحدث الدائر، محلياً وعالمياً، وأما أن يبتعد بنفسه، ويكون في الغياب عما يدور على ساحة الحدث الإنساني المتغير.

إن الناظر إلى ما يجري من حولنا، عربياً وعالمياً، لن يجد سوى اللون الأحمر، لون الدم القاني، لوناً مؤلماً ينطق بروح اللحظة العابرة. صراخاً وحشياً ملتاثاً يمارس، ليل نهار، العنف ونبذ الآخر والدم والقتل والموت. فكيف بأرواحنا المعذبة أن تحتمل كل هذا الدمار؟ وكيف لصغارنا الأبرياء أن يعيشوا ويعايشوا هذه الوحشية الصارخة التي لا سبيل لدرء أخطارها؟ وأي صورٍ مخيفة وبشعة ستحتفظ بها مخيلاتهم البريئة، عن زمن كُتب عليهم أن يعيشوا أحداثه، دون أن يكون لهم يد فيها.

منذ بداية عامنا الحالي، والشعوب العربية، من المحيط إلى الخليج، تعيش على وقع انتفاضاتها وثوراتها، وتدفع ثمناً يومياً باهظاً مخضباً بدمها الغالي، لمطالبتها بحريتها وكرامة عيشها، وسعيها السلمي المشروع لإزاحة دكتاتوريات قمعية وتسلطية جاثمة على صدورها منذ عقود. وليس لنا إلا المشاركة في ما يجري، وليس أقل من معايشة الحدث، وملاحقة المستجدات، وهذا كله لا يزيد إلا بتراكم مناظر العنف فوق سابقاتها، ولا ينفك يضيف مشاهد القسوة والدم على صور دمٍ ما كاد يجف!

إن أقطار الوطن العربي تمرّ بمنعطف حادٍ، تعيش لحظة تاريخية فارقة، لحظة تمس بأحداثها العظام كل من يعيش على أرضها، ولأنها لحظة لا تشبه إلا نفسها، مختلفة عما سبقها وعما سيأتي بعدها، فإن لها ثمناً غالياً لابدَّ أن يشارك الجميع في دفعه، فلم يعد أحد منا بمنأى عما يحدث، وليس لنا إلا أن نكون جزءاً مما يدور حولنا، فما يحدث على أرض واقعنا العربي، هو يخصنا في لحظتنا الراهنة، وهو يخصّ أبناءنا في مستقبلهم القادم، ولذلك لا فكاك لنا عن المشاركة فيه، وإلا فلن يغفر لنا التاريخ غفلتنا عنه ومحاولة ابتعادنا عن صراخه العالي.

إن وعياً واجباً بطبيعة ما يجري من أحداث حولنا، يحتم علينا الانتباه بشكل كبير لأطفالنا والنشء من أبنائنا، فجرعة العنف أمام عيونهم الحبيبة كبيرة، وجرعة الوحشية زائدة، وجرعة اللون الأحمر تكاد تطغى على كل ما سواها. إن دراسات تربوية واجتماعية، عربية وأجنبية، بدأت تنبه إلى سلوك عنفٍ واضح يجتاح مسلك الأطفال في المدارس الابتدائية، سواء على مستوى مفردة اللغة، أو على مستوى التعامل مع الأهل والزملاء والمدرسين، وهذا قد يشكل جرس إنذار خطير، يوجب على كل أم وأب ومربي الوقوف أمامه، ويوجب على الجميع مزيداً من احتضان الأطفال والنشء، ومزيداً من تمضية الوقت معهم وتفهم حاجاتهم ومخاوفهم، والعطف عليهم ورعايتهم. عل ذلك يدخل شيئاً من الطمأنينة إلى قلوبهم البريئة، ويعوضهم ببعض لحظات فرح وسعادة هم في أمس الحاجة إليها، ونحن كذلك.