يحلو لكثيرين من كتاب الصحافة الأدبية في لغتنا العربية أن يعلنوا بين حين وآخر موت الشعر في الغرب الصناعي. هم يصدّقون أنفسَهم بفعل التكرار، ويصدقهم القراء، ويرون، دائما، أن شعرنا العربي، بالمقارنة، شديد الحيوية، شديد الفعل في قرائه، واسع الانتشار، تحيطه دور النشر ومؤسساته الرسمية بالرعاية. يقبل عليه الناس، بفعل موروث متأصل، بحماسة يحسدنا عليها الغربيون. ويرون أن لا نظير لأماسينا ومهرجاناتنا الشعرية العربية التي تعقد هنا وهناك دون انقطاع، ولا نظير لجماهير هذه الأمسيات والمهرجانات.
والحديثُ يكثر على هذا المنوال بضرب من سوء الطوية، لأنه يعتمد الجهل أو إيهام النفس. الغربيون قد يقولون هذا القول، ويشغفون بهذا الميل إلى النقد. ولكن النقدَ هو الجذر الذي تشعبت منه الحضارة الغربية برمّتها، ونقدُ الذات أحد أهم فروعه. وهم يرون في أنفسهم هذا الرأي بفعل تلك الحاسة النقدية التي لا تكل. وهم يفعلون ذلك بأنفسهم لا في حقل الشعر وحده، بل في حقول المعرفة جميعا. ولعل هذا الميل أحد أعظم خصائص حضارتهم. ونحن بالمقابل لا نجهل ذلك كلَّ الجهل، ولا حتى نغفل عنه، بل نأخذه دليلاً بعد أن نجرده من جوهره البناء، ونسطّحُه ليبدو لأعيننا اعترافاً بفشلهم المزعوم. وهذا الأمر، أمرنا، لا نسقطه على نقدهم الشعري فقط، بل على نقدهم السياسي، والاقتصادي، والأخلاقي، والحضاري بصورة عامة. إن الشعرَ والفن والعلمَ، وكلَّ المعارف الأخرى ما هي إلا صفحات أو ملامح من وجه الحضارة. وإذا ما كان العلم والتكنولوجيا متطورين في الغرب، أو في أي مكان، فهذا يعني، بالضرورة أن الشعر والفن متطوران أيضا. والشكوى أو التشاؤم الذي نراه يتردد على ألسنة النقاد في الغرب بكثرة، ما هو إلا جوهر في طبيعة الثقافة الغربية. لأنه عرَضٌ من أعراض النقد الذي تعتمده هذه الثقافة. وليس، كما نفترض، علامةَ انهيار، وكشفاً فضائحياً. الشاعر روبرت غريف لا أمل له بوجود شعر عظيم، وهو واحد من أعظم الشعراء الرومانتيكيين الغنائيين في اللغة الانكليزية. تي أس أليوت جعل القصيدة، كلَّ قصيدة، وليدة الموروث، في حين كانت قصيدته فتحاً للحداثة لا سابقة لها. ولا تخلو ألسنة النقاد الكبار من نبرة أسى على واقع الشعر، ولكنهم لا يكفَون عن إشادة صرح مدارسهم النقدية، التي تحيط كالهالة أسماءَ الشعراء المعاصرين. الإحصاءات الأخيرة تشير إلى أن في الولايات المتحدة الأميركية وحدها أكثر من ألف مجلة مختصة بشؤون الشعر، تصدر أسبوعياً، شهرياً أو فصليا. هذا إلى جانب عشرات دور النشر المختصة. في انكلترا هناك أكثر من أربعين مجلة إلى جانب عشرات النشرات التي تصدرها تجمعات شعرية هنا وهناك. كما أن هناك دور نشر مختصة بالإصدارات الشعرية. ولا يمكن لمتتبع الشعر الانكليزي أن يغفل دار نشر مثل Faber and Faber التي بدأت في الثلاثينيات مقتصرة على استعادة الموروث الشعري الانكليزي، وعلى ملاحقة الأصوات الجديدة وإبرازها، تحت إشراف الشاعر أليوت، أو دار «بنجوين» التي لم تكن تغفل الشعر، على أنها ليست مختصة به، مع أنها أصدرت أوسع سلسلة للشعر العالمي مترجماً إلى الانكليزية نثرا، منها كتابان للشعر العربي، كما أصدرت أوسع سلسلة لأنتولوجيا تعتمد المضامين الشعرية، والمراحل الشعرية التاريخية، والمدارس الشعرية... الخ. هذا إلى جانب دور النشر الجديدة مثل دار «Bloodaxe» و«Carcanet» و «Anvil» و«Forest» و«Oxford»... والقائمة تطول، التي تقتصر على متابعة الأصوات الشعرية المعاصرة والأصوات الشابة. وإصداراتها تحسب حساب الأسابيع لا الأشهر. هذا، دون أن نغفل المهرجانات الشعرية العديدة كل عام، مثل مهرجان الشعر العالمي في «الساوث بنك» ومهرجان «برايتون» ومهرجان «هَيْ» والمسابقات الشعرية المألوفة هنا والتي لا يحصيها عد، شأنها شأن الجوائز الشعرية. إن أية متابعة إحصائية للنشاطات الشعرية في اللغة الإنكليزية، وفي انكلترا وحدها، لتبدو أشبه بمتابعة حركة السير في العاصمة المزدحمة. أما مقارنتها بما نملك من نشاط شعري في عالمنا العربي فتشكل مفارقة محرجة.
توابل
شعر الغرب الصناعي!
02-02-2012