المرأة التي كانت تتسم بالصلابة والهدوء بدأت تفقد قوتها، فالكائن الهش الذي هو هي، يختبئ خلف قوة مزعومة كان لابد منها في حياة فرضت عليها شروط قوانين العيش فيها.
المرأة التي كانت هي، لم تكن هي، بل صورة عنها تداريها وتُبعد عنها العيون المتطفلة، وتُخرس بها الألسنة الطويلة التي تفض السير من الآن ولآخر يوم في حياة بلاد ليس فيها من الحياة إلا اسم الحياة وحده.المرأة التي كانت هي، تاهت وضاعت ما بين هوياتها المتتالية، فلم تعد تتعرف على هوية الزوجة التي كانت، أو الأرملة التي صارت، أو الفنانة المخنوقة بحبال العرف والتقاليد، وبقوانين الديناصورات التي لا ترحم ولا تعرف الركون إلى الرأفة.استنفدتها الطلبات، امتصت كل طاقتها وحاصرتها بالتعليمات والإرشادات وبالأوامر والنقيق الذي لا ينتهي ولا ينفذ، ويبقى ليطاردها بالكلام، هل قامت بهذا العمل أو بذاك، هل أنهت الطلب هذا أو ذاك، هل رفعت سماعة الهاتف لعشرات المرات لتطلب فيها المدير الذي لا يوجد في مكتبه، ووكيله الذي يصعب أن يسد محله؟وماذا عن معاملة فيزا السائق الجديد، وأوراق الخدامة المستبدلة، وصيانة المكيفات، وقرض بنك التسليف والادخار، وتحويل النقود لكلية الولد الشاطر، وتغيير الفلاتر القديمة؟ لأن الماء مشكوك في تلوثه، كذلك يجب تغير خراطيم ورؤوس أسطوانات الغاز كي لا تنفجر مع حرارة الصيف الصاهرة.وماذا بعد؟لا تنسَي استدعاء السباك ليسلك البالوعة المسدودة والطافحة بما فيها، وأيضا اطلبي شركة المبيدات لترش الصراصير والقوارض حتى لا يزعجنا ظهورها حين نعود إلى البيت عندما يطوي نهارنا ذيله.المرأة التي كانت تسمع الكلام وتقوم بتنفيذ كل ما يُطلب منها بمحبة، فجأة اكتشفت أنها قد امتلأت إلى حافتها بالكلام، وأصبح الكلام يدوي في أصواته وينفجر بحروفه في جوفها.كانت البداية حين شعرت بدبيب الكلام يُثقل حركة قدميها، يشدها إلى ثقل الأرض، حتى انها قالت في سرها إنه بلا شك هو ثقل الجاذبية، ولم يخالجها ولو للحظة أن هذا الدبيب ليس إلا بداية أو جرس إنذار مبكر لما هو قادم.والقادم أسرع في هرولته إليها، وبدأ يتصاعد من قدميها دفقة وراء دفقة حتى امتلأت به بطنها وانتفخ مصرانها الغليظ والرفيع معا... وابتدأ يتصاعد إلى معدتها ورئتيها وانتفخ به أيضا قلبها المحب وكل حويصلاتها امتلأت بالكلام...كانت تختنق بالكلام، بهدير الأصوات المختلطة بكل أشكال وأنواع الطلبات والتوجيهات والإرشادات ذات اليمين وذات الشمال، والفوق والتحت، وباختلاط الجهات وبعثرتها في انفلات رهيب، طبقات من الحروف الصوتية يقفز بعضها فوق بعض، تتداخل، تتشابك، تتطاحن، تنهرس، تطأ منافذ الهواء في داخلها، تسدها وتركد فيها.كان ضجيج العراك والافتراس على أشده، والمعركة الدائرة في ميدان مصارينها صارت تبعث لها بطرود من الألم المتعاقب، المختلف في شكله ونوعه عن الألم المرسل إليها من ميدان المعركة الدائرة في الرئة، فهذه قد قام الكلام بالواجب فسد حويصلاتها بحروفه وحل محل الأكسجين المذاب في الهواء.حين ذاك... وفي وقت متأخر جدا أدركت فيها الحقيقة للمرة الأولى... هي مخنوقة بجراثيم الكلام.كانت بالفعل تختنق بحروف الكلام... لم تصدق أبدا أنه من الممكن جدا أن يختنق المرء من طوفان الكلام، من الهجوم الشره للحروف الشريرة المستشرية والملعونة القادرة على امتصاص الطاقة كلها وابتلاع عافيتها.هي لا تصدق ذلك!الكلام بكل بساطة هو سماع، فمن أين له هذه القوة، ومن أين يستمد نفوذ سلطته؟وهل يعقل أن يختنق المرء من الكلام؟كانت هذه الجملة آخر أسئلتها فقد انسد مجرور الكلام.
توابل
حين امتلأت بالكلام
11-07-2011