حالة من الشرود الذهني والذهول وعدم التركيز أصابتني طوال فترة تجولي في شوارع القاهرة الحبيبة، أعرف تلك الشوارع عز المعرفة. هنا جامعتي التي قضيت فيها أياماً جميلة، وها هو ميدان التحرير الذي كنا نمر منه كل يوم في طريقنا إلى الجامعة، وذلك هو المقهى الذي كنت والصديقات نجلس فيه ساعات نتحدث بهمس عن أوضاع البلد والبلدان العربية. وكم تحسرنا على ذلك الزمن الجميل الذي انطلقت منه شرارة التنوير التي أشعلها رواد النهضة العربية كالطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين الذين مهدوا الطريق لانتصار قيم الحرية في ثورة 1919 حين التحمت القوى الوطنية ضد المستعمر، فخطب القساوسة من فوق المنابر وشيوخ الأزهر في الكنائس... هنا كنا نتجادل حول ثورة الضباط الأحرار في 52 التي أجهضت ذلك الحراك الثقافي لتدخل مصر الحبيبة في نكستها الثقافية.
أجوب الشوارع وأناجي الذكريات... بقيت الشوارع والأماكن كما تركتها، إلا أن روحاً جديدة تنتشر في المكان، لم يعد الهمس سمة هذا الزمان. اليوم الكل يتكلم في السياسة والرئيس السابق وفساد نظامه والحدث التاريخي لمحاكمته... التقيت مختلف فئات المجتمع الثوار منهم والفلول، المؤيد منهم والمعارض، الإسلامي منهم والليبرالي... الكل يتكلم وينتقد إلا أن مخاوف كثيرة لاتزال تشغل بال الكثير من المصريين حول مستقبلهم وإمكانية صياغة دستور يمهد الطريق لبناء دولة ديمقراطية عصرية، بدلاً من الإتيان بدستور غير ديمقراطي يكرّس الاستبداد السياسي كما هو حال دستور 1971 الذي أتى ليُفَصَّل حسب مقاس الرئيس في منحه صلاحيات واسعة شبه مطلقة، لتهيمن الدولة البوليسية ويستشري الفساد، وتتسع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وتنعدم العدالة الاجتماعية، وتزداد انتهاكات حقوق الإنسان، ويتصاعد التعصب والتمييز الديني ضد الأقباط والأقليات، وتُهمش الأحزاب السياسية عقوداً، ويغدو الدستور والتعددية الحزبية مجرد شكل لا قيمة فعلية له.أما اليوم فيدور جدل كبير بدأ حول الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي حُسِم لمصلحة التيارات الإسلامية التي دعت إلى "الانتخابات أولاً قبل صياغة الدستور"، ليتعمق بعد ذلك الاستقطاب الواسع بين القوى الإسلامية والقوى المدنية حول وثيقة المبادئ الأساسية للدستور التي رفضتها القوى الإسلامية وهددت بالتصعيد والخروج إلى الشارع في جمعة "مليونية"، بينما تؤيدها التيارات المدنية للحيلولة دون سيطرة وانفراد دعاة الدولة الدينية بصياغة دستور يفرغه من المبادئ الديمقراطية، ولا يلتزم بالدولة المدنية ومبدأ المواطنة، إذ لن تقوم للديمقراطية قائمة ما لم تقترن بضمانات حقوق الإنسان والأقليات والحريات والمساواة أمام القانون وتقييد سلطات الحكومة وإخضاعها للمساءلة والمحاسبة، وهي حقوق مكتسبة ولا يجوز إلغاؤها لأنها مستقلة عن الحكومة. يقول د. عمرو الشوبكي: "إن الفرصة الحقيقية لإحداث دمج آمن لجزء كبير من التيارات الإسلامية في العملية الديمقراطية تحولت إلى مخاطرة كبيرة، لأن العنصر الأول لنجاح هذه العملية هو بناء الديمقراطية أولاً". لم يأتِ القلق من الانقضاض على الدولة المدنية من عدمه، بل كانت أعمال العنف والترويع جلية في الساحة السياسية كما تتضح في تبني هذه التيارات لشعارات إقصائية إلغائية، وها هم السلفيون الذين لم يشاركوا في ثورة 25 يناير بل كانوا يبايعون الحكومة السابقة الفاسدة ويحرِّمون الخروج على الحاكم، يحاولون خطف الثورة والاستفادة من حالة التعصب والاحتقان الديني.هناك قلق متزايد حول عدم اكتمال مهام الثورة، وهناك من يتساءل "بكره عامل إزاي؟"، وهناك من ينتقد بقاء أسلوب النظام السابق رغم أن شعار الثورة كان "الشعب يريد تغيير النظام"، والكثير يعبر عن خوفه من سرقة أهداف الثورة وضياع دم الشهداء هدراً، وهناك استياء متصاعد من المحاكمات العسكرية للثوار والصحافيين، آخرها قضية الناشطة أسماء محفوظ التي تكلمت عن أخطاء المجلس العسكري والتي ظهرت في إحدى المحطات التلفزيونية متسائلة "يعني النهارده العادلي بيتحاكم محاكمة مدنية... وأنا بتحاكم محاكمة عسكرية؟!".ذهبت يوم الجمعة الفائت إلى ميدان التحرير حيث احتشد الجمهور حول الميدان، الذي سيطر عليه الجيش ومنع دخول المعتصمين إليه، تحت شعار "جمعة الدولة المدنية"، الذي تبين لي أنه كان رداً على جمعة دعاة الدولة الدينية. وفي الجهة الأخرى سمعت جموعاً تصرخ في وجه الجيش الذي حاصر الميدان مرددين "يسقط الجيش"... لأتساءل: "هو في إيه؟".
أخر كلام
هو في إيه؟
19-08-2011