"ما مضى دائم السير إلى ما سوف يأتي وما سوف يأتي سرعان ما يصبح ما مضى لأنه لا شيء يوجد... كل شيء يصير فأين الحاضر في الزمن مهما فتشنا عنه فلن نجده". د. رشاد رشدي.

Ad

أزعم أن لي غراما خاصا بالزمن والتفكير في العلاقة المتشابكة بين الماضي والحاضر والمستقبل؛ لذلك تحمل عبارة المفكر المصري الراحل رشاد رشدي الكثير من الأفكار التي تثير الاهتمام، خاصة أن الكثيرين– وأنا منهم– يضيعون حاضرهم، وهم يتذكرون ماضيهم ويخشون مستقبلهم، وهذا ما يجعلني من أنصار بعض الفلاسفة ممن يرون الحياة ماضيا ومستقبلا.

فالحاضر لا يلبث أن يصير ماضيا، كالحاضر في بداية المقال هو ماض في نهايته، وحاضر الكلمة الأولى في السطر هو ماضي الكلمة الأخيرة، بل إن الأحرف والمفردات في بدايتها زمن وعند نهايتها زمن آخر.

إن كان هذا رأي بعض الفلاسفة فإن لعلماء الفيزياء رأيا مخالفا تماما، فالدكتور أحمد زويل مثلا لا يرى أن هناك حاضرا واحدا، بل "حواضر" كثيرة، فالثانية التي يراها البعض لا تستحق الوقوف عندها أو اعتبارها حاضرا يجعل منها علماء الطبيعة حاضرا واسعا يتسع لأكثر من ألف مليون حاضر! فما يحدث في الثانية لا يقيّم على أنه حركة أو فعل واحد، ولكن أكثر من ألف حركة لجزيئات المادة.

على مسافة من هؤلاء وهؤلاء يقف علماء الفلك والجغرافيا مبتسمين ضاحكين، فلا زمن مطلقا أو مجردا، ولا ماضي ولا حاضر، ولكن الزمن يرتبط ارتباطا فعليا وحقيقيا بالمكان، فإن تقل لشخص ما مثلا: أراك عند شروق الشمس، يبتسم عالم الجغرافيا، ويسألك في أي مكان تقصد؟ وأي شروق للشمس تسأل؟ فإشراقها في اليابان يختلف عن بزوغها في الكويت أو سطوعها في أميركا... إلخ، والحاضر في الكويت ماض في أستراليا، فلا يوجد زمن محدد، ولكن يوجد زمن مرتبط بمكان، ولا يمكن الحديث عن أولهما دون تعريف وتحديد الثاني.

إذا كان هذا رأي العلماء على اختلاف طوائفهم فإن للأدباء الكثير والكثير من الآراء، فكاتب يتحدث عن جمال المستقبل ويقول "جماله أننا لا نعرفه ونحن نحب المفاجآت، ولكن المشكلة أننا نريدها كلها سعيدة"، وكاتب آخر يقول "إذا أردت معرفة في أي الأيام أنت فاسأل نفسك: هل تتذكر حلاوة الأمس أم تشعر بمرارته؟ فأمر الأيام ما يذكرك بحلاوة الأمس وأحلى الأيام ما ينسيك مرارته". وباعتباري طبيبا فلا يمكن الحديث عن الزمن دون الإشارة إلى أثره في الجسد، فإن من يعيش الماضي ولا ينساه كمن يخاف المستقبل ويخشاه يقع فريسة للكثير من الأزمات النفسية، ويصاب بالأمراض الجسدية (الضغط- السكر- قرحة المعدة... إلخ)، بالإضافة إلى التأثير الفسيولوجي للزمن على الجسم كالشيب وتجاعيد الوجه والتصبغات الجلدية... إلخ.

أما تأثير الزمن في الحب والعلاقة بين العاشقين فله بعد آخر أشد عمقا وأكثر غرابة وطرافة.

قال شاعر:

كان ينهى فنهى حين انتهى وانجلت عنه علامات الصبا

وكان كحلا لمآقيها فقد صار بالشــيب في عينيها قذى

ويرد عليه شاعر آخر:

أترجو أن تكون وأنت شيخ كما قد كنت أيام الشباب

لقد كذبتك نفسك فليس ثوب "دريس*" كالجديد من الثياب

وللمثل الشعبي دور كبير في التعبير عن الزمن وأحوال الدنيا، ونكتفي بمثل واحد– لضيق المساحة- يقول: "السنة الفقر 15 شهر"، فهل هو تعبير عن امتداد الحاضر أم الخوف من المستقبل أم عدم نسيان الماضي؟

* دريس: قديم