منذ انطلاق قطار الربيع العربي من محطته الأولى البوعزيزي بمدينة سيدي بوزيد بتونس قبل 10 أشهر، مروراً بميدان التحرير بمصر، فبنغازي بليبيا، وصولاً إلى اليمن وسورية، فإن التساؤلات المطروحة: ما وجهة القطار التالية؟ ومتى سيتوقف؟ وما الذي يحمله من طروحات تغير الأوضاع القائمة؟ لكل هذه التساؤلات وغيرها قامت صحيفة "الاتحاد" الإماراتية بتنظيم منتداها السنوي السادس في أبوظبي 20/10/2011 تحت عنوان " العالم العربي إلى أين؟" بحضور 45 مفكراً وكاتباً عربياً و6 أوراق عمل و6 تعقيبات، وعبر مداخلات اتسمت بكثير من الحرية والحيوية، ساهم الحضور في إنضاج الموضوع وتحليل الجوانب المتعددة للحراك السياسي الراهن، وتعميماً للفائدة أود إشراك القراء في أبرز ما طرح في هذا الملتقى الفكري الحيوي:
أولاُ: توصيف الربيع العربي: هل هو ثورة أو حركة اجتماعية وسياسية؟ تضمنت ورقة د. علي الطراح، عالم الاجتماع وسفير الكويت باليونسكو، أن الثورة مفهوم شامل وتغيير جذري سياسي واجتماعي واقتصادي، كما حصل في الثورة الفرنسية التي حملت مبادئ عالمية: الحرية والمساواة والإخاء، ومثلت قطيعة شاملة لكل ما سبقها، ومثل الثورة الزراعية والصناعية والتكنولوجية التي أحدثت تغيرات جوهرية في بنية المجتمع وتأثر العالم بنتائجها. أما حركات الربيع العربي فقد استهدفت إسقاط النظام السياسي ورموزه، فلا يمكننا أن نطلق عليها وصف الثورة، خصوصاً أن العالم العربي تسوده العصبيات والولاءات والانتقامات والثأر كسمات بارزة في هذه الحركات، فمثلاً في الحالة المصرية التي أطاحت بحاكم مستبد لم نجد سلطة جديدة تقطع الصلة بما قبلها، فمازال الجيش يحكم ويمسك بالسلطة، وفي حالة اليمن تسيطر القبيلة والعصبية فهي مجرد حراك يسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية واجتماعية، وفي ليبيا ربما يكون الحافز ثأراً أقرب منه إلى ثورة، ومع الانتهاء من القذافي ستبرز الخلافات غير المعلنة.بطبيعة الحال، هناك مَن عارض هذا التقسيم باعتبار أنه لا يوجد نموذج واحد وجاهز نقيس عليه ثورات الربيع العربي طبقاً للدكتور عمار علي حسن الروائي والباحث المصري، الذي أكد أنه من العبث أن يعتقد أحد أنه يمكن قياس أي من الثورات الحالية على ثورات أخرى، مضيفاً أن تقييم الثورات العربية حالياً لا يخلو من تسرع، وقياسها على الثورات الكبرى التي غيرت التاريخ الإنساني، يغفل اختلاف السمات النفسية للتجمعات البشرية واختلاف التجربة التاريخية والجينات الحضارية وطبيعة الشخصية القومية للأمم.ثانياً: اللا يقين واللا اطمئنان: يرى د. وحيد عبدالمجيد مدير مركز الأهرام للترجمة والنشر، أن اللا اطمئنان هو سيد الموقف بشأن مستقبل بلاد الربيع العربي تونس ومصر وليبيا، إذ لا توجد ثقة كافية بأن قوى التغيير ستنجح في بناء نظم سياسية حرة عادلة ومستقرة تحقق الأهداف التي من أجلها نزل الناس إلى الشارع وعبرت عنها الشعارات الثورية: "الحرية والعدالة والكرامة"، إضافة إلى أنه لا يقين بشأن النتائج التي يمكن أن يسفر عنها مخاض التغيير في اليمن وسورية، ولا بخصوص مصير البلدين في حال تحقيق هذا التغيير.ونضيف هنا أنه حتى الدول الغربية وأميركا لا تستطيع التنبؤ بمسار هذه التطورات، فقد صرحت وزيرة الخارجية الأميركية أمام لجنة الشؤون الخارجية بأن الولايات المتحدة لا تعلم النتائج المتوقعة من عمليات الانتخابات المقبلة في الدول العربية التي تمر بانتقال سياسي تاريخي، خصوصاً ليبيا وتونس ومصر، ومن غير المعلوم ماذا ستعني الديمقراطية أو ماذا ستجلبه التغيرات العربية؟ثالثاً: الآمال والمخاوف: لقد كانت الآمال في بلاد الربيع العربي كبيرة، وكانت الطموحات عظيمة طبقاً لوحيد عبدالمجيد، غير أنه ما إن غادر بن علي تونس وتنحى مبارك ودخل الثوار طرابلس حتى انتهى التوافق الضمني الذي جمع قوى التغيير على هدف إسقاط النظام، بالرغم من أن بنية هذا النظام بقيت قائمة، سواء في مصر أو في تونس، ويستنتج وحيد عبد المجيد أنه بانتهاء هذا التوافق وظهور الخلافات، قديمها وجديدها، وتحول بعضها إلى مصدر للانقسام، تراجعت الآمال والطموحات، وصارت المخاوف أكبر، والهواجس أعظم يوماً بعد يوم في البلدين. ومن أبرز هذه المخاوف الخوف من هيمنة الإسلاميين والقوى السلفية التي خرجت من عزلتها لتشكل حضوراً قوياً ومفاجئاً في قلب المشهد السياسي، ويلفت د. وحيد الانتباه إلى أن الحرية عبر التاريخ ثبت أنها لا تتصدر أولويات الإنسان عندما لا يكون قادراً على ضمان أمنه الشخصي وتوفير المعاش لنفسه وأسرته، أو حين يضيق الناس بانقسام الأحزاب والقوى السياسية وصراعاتها التي يمكن أن تخلق أجواء ملائمة للتطلع إلى حكم قوي ينقذ البلاد والعباد. من يرصد الشارع المصري يجد أن حالة الإحباط عامة، خصوصا بعد تفاقم "أحداث ماسبيرو" إذ أصبح البعض يردد: "الثورة ضاعت وعليه العوض"، نتيجة الإحساس بعدم الأمان وعدم الاستقرار، لقد وصلت الحالة إلى أن يصرح البرادعي وهو المتنبئ الأشهر للثورة والمرشح المحتمل للرئاسة محذراَ من أن مصر ستفلس في 6 أشهر إذا لم تستقر الأوضاع وتعود الاستثمارات، كما قال "إن جميع الأطياف السياسية في مصر، جيشاً وحكومة وثواراً، فشلوا في إدارة المرحلة الانتقالية"، مطالباً بحكومة إنقاذ وطني.رابعاً: تصاعد المخاوف من الإسلاميين: دفعت ثورات الربيع العربي الإسلاميين إلى تسيد المشهد السياسي، فبعد أن كانوا مهمشين مستهدفين من قبل أنظمة سياسية على امتداد سنوات السابقة، أصبحت فرص فوزهم اليوم بالأغلبية في الانتخابات كبيرة، وحتى في تونس بالرغم من قوة المجتمع المدني وعراقة الأحزاب الليبرالية وانفتاح المجتمع التونسي، استطاع حزب النهضة الحصول على 88 مقعداً في انتخابات المجلس التأسيسي، الذي سيقوم بحكم البلاد ووضع دستور جديد. وتشير التوقعات بأن هذه النتائج التي حققها حزب النهضة ستنعكس إيجاباً على جماعة "الإخوان" في مصر، التي تسعى بقوة إلى الحصول على نتائج مماثلة في الانتخابات المزمع إجراؤها نهاية الشهر القادم. وهذا الحضور السياسي القوي للإسلاميين في المشهد الراهن وهذه النتائج القوية لحزب النهضة ضاعفا من مخاوف الأحزاب والجماعات والمنظمات الأخرى تجاه هيمنة الإسلاميين واختطافهم ثمرات الثورة واستئثارهم بالمغانم، ومن ثم السعي إلى إقصائهم كما فعلت الثورات العربية منذ نصف قرن في مصر وسورية وليبيا والعراق واليمن، ولتبديد هذه المخاوف سارع الشيخ الغنوشي رئيس حزب النهضة إلى إرسال رسائل تطمينية للخارج والداخل، بأنهم سيحافظون على المعاهدات الدولية والعقود المبرمة مع العالم الغربي وعلى الاستثمارات كافة، بل ويتعهدون بتقديم جميع التسهيلات والضمانات للاستثمارات الدولية، وبالنسبة للداخل فإنهم يلتزمون بإعادة بناء مؤسسات دستورية تقوم على احترام القانون واستقلالية القضاء واحترام حقوق المرأة وتفعيل مفهوم المواطنة المتساوية. وأكد الغنوشي أن الربيع العربي قد غير من الإسلاميين فكراً وسلوكاً، قائلاً إن الزعماء الإسلاميين الذين سيخرجون من عباءة الربيع العربي سيكونون أشبه بالموجودين في تركيا، ولن يكونوا مثل الجماعات المتشددة كحركة "حماس" أو "طالبان"، متمنياً أن تبدد التجربة الديمقراطية في تونس الصورة النمطية للإسلاميين بأنهم يميلون إلى العنف وأنهم متعنتون وأعداء للغرب، مؤكداً عدم تعارض الإسلام والحداثة. ويعلق عادل الطريفي، رئيس تحرير مجلة "المجلة"، متسائلاً: هل تغير الإسلاميون بالفعل؟ إذا كانوا قد تغيروا، فلماذا كل هذا الحماس في التأكيد على حسن النوايا؟ لقد وصلت حماستهم في التطمينات إلى درجة تقديم تنازلات تجاوزت الثوابت، إذ سبق للشيخ الغنوشي أن صرح بأن حزبه لن يقدم على حظر "البكيني" و"الخمور" ولن يتدخل في الحريات الشخصية، بل وامتدح "مجلة الأحوال الشخصية"، التي أصدرها بورقيبة 1956، وهي المجلة التي يلعنها الإسلاميون صباح مساء بسبب حظره لتعدد الزوجات!. التساؤلات الآن: إذا صدق الشيخ الغنوشي وزملاؤه في ما تعهدوا به علناً لشعوبهم وللمجتمع الدولي، فإنهم حقيقة قد تغيروا وأصبحوا مثل حزب العدالة والحرية التركي. وتبقى التساؤلات المطروحة: ما الفرق إذن بين الأحزاب الإسلامية والأحزاب العلمانية؟ ولمَ الصراع بينها؟ ولماذا تشويه العلمانيين وتكفيرهم؟ ولماذا صراع الإسلاميين مع الأنظمة العربية القائمة؟! أليس كل ذلك يؤكد أنه صراع دنيوي سياسي، لا صراعاً دينياً، على الاستئثار بالمغانم والمناصب؟!* كاتب قطري
مقالات
قطار الربيع العربي... ما وجهته وما حمولته؟!
31-10-2011