- 1 -

Ad

الخروج من الظلمات العربية الجاهلية التي نعيشها الآن إلى أنوار العصر الحديث، لا بُدَّ أن يمر بمسار تحويل نصوص التراث إلى موضوع مساءلة بالعلوم الإنسانية، لمعرفة ما وراء أبعاده الرمزية من عوامل موضوعية، وما وراء حمولته الروحية من مكونات تاريخية، ولنا في النخبة الأوروبية الحديثة قدوة حسنة، فقد فصلت هذه النخبة، منذ "الرسالة اللاهوتية- السياسية" في القرن السابع عشر، بين العقل والنقل، وجعل الفيلسوف الهولندي سبينوزا (1632-1677) النقل خاضعاً لمساءلة العقل مثله مثل أي ظاهرة طبيعية.

ونحن نبدأ المسيرة الظافرة للخروج من تاريخ هزائمنا الطويل، عندما نعطي من المحيط إلى الخليج، للعلوم الاجتماعية تأشيرة الدخول إلى مدارسنا وجامعاتنا، مثلما دخلت منذ قرون، وما زالت تدخل إلى جميع المؤسسات التعليمية في القارات الخمس.

- 2 -

إن تقليدية المجتمعات العربية، التي ما زالت- بعنصرها الغالب- متشبثة بالعصر اللاهوتي، حيث التسليم هو بديل التفكير العقلاني النقدي، أدت إلى أن الفكر الأسطوري (معشعش) في رؤوس سواد مثقفيها، إضافة إلى العامل الموضوعي الآخر، وهو الإرهاب الأصولي، الذي جعل كل قراءة علمية، أو حتى عقلانية للنص يكلف الباحث حريته أو حياته، كما قال المفكر التونسي العفيف الأخضر في لقائه الصحافي مع الصالح بوليد (جريدة "الزمان"، 17/5/2001).

فبعض نصوص التراث تعيق الأمم من الدخول في الحداثة، والمثال على ذلك، من خلال رصد الأمم التي دخلت الحداثة، خصوصاً تلك التي توغلت فيها إلى أبعد مدى كأميركا.

- 3 -

فاليونان مثلاً، ذات الماضي الحضاري العريق، لم تدخل الحداثة بل ظلت– وما زالت– متخلفة، ولولا انضمامها إلى المجموعة الأوروبية، لكانت حتى الآن تئن تحت "بسطار" ضباط الجيش، ويعيش خمس سكانها تحت خط الفقر، وما يصدق على الأفراد يصدق على الأمم، فنكوص الفرد إلى صباه عائق جديد يعيقه عن التكيف مع مبدأ الواقع، كذلك الأمم ذات التراث العريق، تغدو بنكوصها إلى ماضيها المجيد عاجزة عن قبول التجديد، والحداثة ليست تجديداً فقط، بل هي قطيعة جارحة للتراث، فبعض نصوص التراث، تلعب دور الضمير الأخلاقي الباغي الذي يردع ورثته عن التنصل من أوامره ونواهيه؛ أي المحرمات التي تعيش كل تجديد وكل تحديث، كانتهاك لا يرقى إليه الهمس، كما أن التثبت العصابي في هذا التراث- كما تفعل الأصولية والسلفية- يغذي النرجسية الجمعية والمركزية الإثنية بوتائر عالية، مما يجعلها تلعب دور العائق الذهني.

- 4 -

إن بعض نصوص التراث يجعل ورثته يعتزون بماضيهم المجيد عن حاضرهم البائس، متخذين منه ملاذاً من الحداثة وحصناً لمقاومتها، بما هي تحدٍ لهذا الماضي الذي تقوقعوا فيه، وحوّلوه إلى طوباوية تسلطية.

فالدولة الحديثة التي هي المدخل إلى الحداثة مرفوضة باسم "دولة تراثية" نموذجية صالحة لكل زمان ومكان.

إذن، تقليدية المجتمعات العربية، تعتبر من عوائق تقدم الحداثة، فهذه المجتمعات مازالت بعنصرها الأغلب متشبثة بالماضي العريق حيث التسليم بكل شيء، هو بديل التفكير العقلاني النقدي، والذي سبب عشعشة التفكير الأسطوري في رؤوس سواد مثقفي هذه المجتمعات. كما أن الإرهاب الأصولي جعل كل قراءة علمية أو عقلانية للنص تكلف الباحث حياته أو حريته، كما قلنا قبل قليل، ولنا من المثقفين الذين حاولوا ذلك أمثلة كثيرة كمحمود محمد طه الذي شنقه النميري وحسن الترابي، ونصر حامد أبوزيد الذي هرب من بلاده إلى هولندا حتى لا تطبَّق بشأنه الحسبة، في فصله عن زوجته.

- 5 -

وهكذا يتضح لنا، أن في بعض نصوص التراث، ما يعيق تقدم الحداثة، وعدم النجاح في فك التماهي مع الماضي، فألمانيا– مثلاً - لم تدخل الحداثة إلا بعد أن أعادت النظر في تراثها، فقد قامت النخبة المفكرة بعد هزيمة بروسيا الإقطاعية أمام فرنسا البورجوازية في "يينا" 1806 للمطالبة أكثر من السابق بضرورة تبني النموذج الفرنسي، خلافاً للعسكريين الذين لم يروا من الهزيمة غير مظهرها العسكري، كما فعلنا نحن مع هزيمتي 1948، 1967.

في حين رأى المثقفون فيها هزيمة للمجتمع كله، بكل مؤسساته التي لم تعد معاصرة لعصرها، وطالب المثقفون البروسيون (الألمان) أمتهم بالتماهي مع فرنسا التي حققت الثورة بعقلها، وكذلك فعلت اليابان في 1868، وفي 1945، وكذلك فعلت تركيا بعد إسقاط الخلافة في 1924.

- 6 -

لقد سلكت الدولة العربية الحديثة في عصر النهضة طريق التحديث وصولاً إلى الحداثة، كذلك سلكت الدولة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين هذه الطريق، إلا أن هذه الطرق كانت شبيهة بما كان يجري في أوروبا الشرقية مع وجود نظم استبدادية دكتاتورية قروسطية عاتية، صادرت الحريات، ونفت المساواة.

ويتبين لنا من كل ما سبق، أن الطريق إلى الحداثة من الصعب أن يكون سالكاً ومُمهَداً ما لم نُطبِّق قيم عصر الأنوار في الحرية والمساواة.

ولعله أصبح واضحاً أن الطريق إلى الحداثة في العالم العربي، ممهدة عند إنهاء الصراع بين المعسكرين المتنابذين (الأصولي والحداثي)، ووقف الإسقاطات التصفوية من كلا الجانبين، وإعادة استقراء الواقع، وما يحكمه من قوانين خارجية وداخلية من أجل اجتراح أسئلة وأجوبة جديدة، تنسجم مع المسائل المطروحة. والمطلوب أن نذهب إلى ما بعد الإشكاليات السطحية المصدرة إلينا، لندرك الحدود المعرفية للأنماط الفكرية المستجلبة والمكرورة، وما يكمن وراءها من مخاطر تكريس عوامل التبعية، كما قال المفكر السوري غريغوار منصور،  في كتابه ("الحداثة العربية من منظور ضدي"، ص 49).

- 7 -

من ناحية أخرى لا بُدَّ من الاعتراف، أن الحداثة العقلية تُحدث القطيعة مع اليقينات الدوغمائية للإيمان التقليدي والمسلمات المتشنجة للنظام المغلق، فنحن لن ندخل عصر الحداثة إلا إذا بنينا تفكيرنا على العقل وحده، وإذا لم نكف عن محاربة العقلانية والمعقولية، وإعلان فشلها وفشل مشاريعها، وذلك بواسطة أسلحة التقليد أو بواسطة دغدغة الشعور الديني الذي في حقيقة أمره لا ينفي المعقولية، كما يقول الباحثان التونسيان رشيدة وفتحي التريكي في كتابهما ("فلسفة الحداثة"، ص 27).

وهما يؤكدان أن "أمام حركة الحداثة العربية جهد كبير وعمل مضنٍ، لكي تستطيع الحداثة العربية أن تصل إلى طورها النهائي. وهذا الجهد الكبير والعمل المُضني يتمثل بالآليات التي تؤدي إلى عقلنة الفكر العلمي والسياسي والتاريخي".

* كاتب أردني