روسيا... والاستثمار في الدم السوري
قد لا يكون الداء مصيبة إن توافرت إمكانية البراءة منه مع الزمن، لكن المصيبة والكارثة أحياناً تكمن في ذلك الأثر الذي يتركه على الصعيد النفسي والجسدي، وآفة الاستبداد واحدة من الأمراض المزمنة التي تترك أثراً لا يمحى عبر الزمن.روسيا واحدة من الدول التي يفترض أنها برأت وتبرأت كلياً من الإيديولوجيا ومن إرث النظام الستاليني غير المشمول بالتصنيف الإنساني والأخلاقي للبشرية، وأنها بدأت تتطلع إلى الحياة من منظور الحرية أولا لها ولشعوب الأرض مع الإصرار على التخلص من كل أدران العهد السابق، ومد يد العون للشعوب المبتلاة بذات الإيديولوجية التي خلعتها من ذاتها الإنسانية واحترام رغبتها في العيش الحر الكريم بعيداً عن حسابات الربح والخسارة... لكن البراءة المطلوبة لم تتحقق بعد.
فها هي الستالينية تعود إلى روسيا من جديد لتساند أنظمة القمع والإبادة- أصدقاء الأمس وحلفاء اليوم- ومنهم الممانع الأخير في المنطقة النظام السوري الراحل، وذلك من خلال الدعم اللامحدود له بتثبيت دعائمه الآيلة للسقوط، وكان آخره "الفيتو المشؤوم" الذي أعطى الرخصة له للتغول بالدم أكثر فأكثر، فكان بعده القصف والتدمير للمدن والبلدات مع المئات من الضحايا فوق الأرض وتحتها وما بين طبقاتها. وهذه المساندة بالطبع غير مجانية وليست عبثية بل هي على الأغلب مدفوعة الثمن من "الخُمس" الإيراني ومما تبقى من قوت الشعب السوري، وهذا الاستثمار مقدمة لاستثمار آخر، وهو ما يفسر زيارة وزير الخارجية الروسي ورئيس مخابراته إلى دمشق رغم التبرير الدبلوماسي لها. ندرك أن النزعة القطبية ما زالت حاضرة لدى الروس في النفس والذهن معاً، وأن الحنين بالعودة لها لا يفارقهم، لكن من غير المفهوم الإصرار على كفالة أنظمة متهالكة من بقايا "توالف" الحقبة السوفياتية رغم تساقطها الواحد تلو الآخر، وبعضها في الطريق ومن دون قبض الثمن المطلوب، وأحيانا بدون ثمن بل خسارة ود شعوب المنطقة والعالم، فمن اليمن الجنوبي إلى عراق صدام حسين وإلى نظام القذافي ومروراً بالآيل للسقوط نظام الأسد، ووقوفا عند النظام الإيراني المتآكل!وهذه القراءة في المصالح تدفعنا إلى التساؤل أهو الغباء السياسي؟! أم هو الابتزاز الثلاثي الأبعاد؟ فمرة في السلطة والأخرى عند الاهتزاز، والأخيرة ما قبل السقوط والتي تحتم بيعه- أي النظام- إلى من يدفع الثمن ولو كان من خصومه... وهذا ما يفسر كلام مساعد وزير الخارجية الروسي عندما عزا أسباب الفيتو الأخير "لأن أحداً لم يبذل جهداً مع موسكو لإيقافه"، أي أن أحدا لم يحاورهم ويدفع الثمن.تجارة الدماء سلعة رابحة لأنها تعتمد على (استثمار الموقف) ورأس مالها الوحيد بعض الانهيارات الأخلاقية والإنسانية في تركيبة السلطة التي من خلالها يمكن المساومة على مصاير الشعوب ودمائها، ويتحدد السعر حسب موقع الدولة المساومة، وأعلاها سعراً تلك التي تتبوأ مكانة في الخمس الدائمة في مجلس الأمن والتي يمكنها استثمار قهر الشعوب وعذابات الأوطان حتى تحول مجلس الأمن مع الزمن إلى مجلس السوق أكثر منه إلى بيت الأمم... فالعرض والطلب دستوره، ومصاير الشعوب مجال مساومته، لكن هذا الانحدار لن يوقف شعباً قرر دفع ثمن كرامته وحريته.