لم يكد اللواء عمر سليمان يعلن تخلي مبارك عن سلطاته وتفويضه الجيش في إدارة شؤون مصر، مساء 11 فبراير الماضي، حتى تلقيت اتصالاً من قناة فضائية عربية تريد مني أن أعلق على هذا الحدث الفارق.

Ad

كانت أصوات الفرح تتدافع عبر الهاتف من الناحية الأخرى، وكانت محدثتي ذات اللهجة الشامية تلهج بالكلام كلاعب كرة قدم بذل مجهوداً عنيفاً ليحرز هدفاً غالياً، ثم انطلق في نشوة فرح عارمة غير مصدق إدراكه غايته.

وعلى الفور، تلقيت التهنئة من المتحدثة بكثير من الود والفرحة الصادقة، قبل أن تحيلني إلى مذيعة الهواء، التي استمعت إلى تقييمي السريع للتطور التاريخي الذي شهدته مصر، ثم أسكتتني مباشرة، حين حاولت أن أتحدث عن الصعوبات الكبيرة والتحديات الضخمة، التي ستواجهها البلاد، لخوض المرحلة الانتقالية الصعبة والمحفوفة بالمخاطر.

لم أجد أفضل من هذه الواقعة تجسيداً لانحياز مهني مهم يسمى "انحياز الانخراط"، وهو خطأ مهني يقع حينما يتورط الإعلاميون في الأحداث التي ينقلونها ويشرحونها للجمهور، حيث يصبحون جزءاً من هذه الأحداث، مثلما يحدث حين ينقل معلق كرة قدم وصفاً تفصيلياً لإحدى المباريات، ثم يتقافز فرحاً ويتمايل طرباً، إذا سجل أحد الفريقين هدفاً. لا شك أن جمهور الفريق المنافس لن يكون مرتاحاً لهذا الأمر، ولا شك أيضاً أن الوصف الذي سينقله هذا المعلق للمباراة لن يكون دقيقاً أو منصفاً، مهما ادعى الإنصاف أو حاول إدراكه.

الشيء بالشيء يذكر، فقبل أيام تسرب مقطع فيديو نادر إلى موقع "اليوتيوب"، ليحظى في ساعات قليلة بنسب مشاهدة شديدة الارتفاع. المقطع يصور غرفة التحكم في التلفزيون المصري، وما جرى فيها لحظة إذاعة الخطاب ذاته، حيث يظهر قائد عسكري إلى جانب مسؤولين في التلفزيون مع عاملين وفنيين وإعلاميين، يتابعون باهتمام شديد إذاعة نص الخطاب التاريخي.

ثمة تفسيرات وتأويلات كثيرة لظهور هذا الشريط في ذلك التوقيت بالذات، لكن المغزى المهم في هذا الصدد يتعلق بالحالة التي كان عليها معظم الإعلاميين والفنيين الذين كانوا يتابعون بث الخطاب، فقد كانوا في حال أقرب إلى الحزن العميق منها إلى الاهتمام، وأقرب إلى الذهول منها إلى الحماس. ولذلك، فلم يكن مستغرباً أن الدموع انهمرت من بعضهم في حرقة وأسى واضحين، في الوقت الذي كانت فيه القاهرة تضج بفرحة غامرة، والزغاريد تنطلق من الشرفات، والألعاب النارية تغطي السماوات ابتهاجاً في أعماق البلد، الذي تأذى على مدى ثلاثين عاماً من حكم عاجز وفاسد في آن.

قبل ثلاثة أسابيع، كانت أعين المصريين تتعلق بشاشات الأخبار، ليتابعوا تظاهرتين متناقضتين في قلب القاهرة، إحداهما كبيرة وراسخة في "ميدان التحرير"، تحاول أن توقف تفريغ الثورة من مضمونها أو سرقتها وإفسادها، والأخرى ملتبسة وطارئة في "ميدان العباسية"، تؤيد المجلس العسكري الذي يدير شؤون البلاد، وتشن حرباً على التيارات الثورية المدنية، وتخّونها وتتهمها باتهامات حادة وشائنة.

وحين سأل أحد المذيعين، في فضائية مصرية، مراسله في "العباسية" عن عدد المحتشدين في هذا الميدان، سارع المراسل المنفعل بالحدث، والذي ظهرت ميوله السياسية واضحة، إلى القول إن المحتشدين يعدون نحو 700 ألف متظاهر، وهو عدد يزيد بنحو 70 ضعفاً عما اتفقت عليه معظم وكالات الأنباء المعتبرة.

وحين انتقلت الكاميرا إلى تظاهرة "ميدان التحرير" بعد لحظات قصيرة، وسأل المذيع مراسله الميداني، وهو هذه المرة أحد ثوار التحرير البارزين، سارع هذا الأخير بالقول إن عدد من يحتشدون في الميدان يقارب 37 أو 38 مليوناً، وهو ما استدعى تساؤلات مذهولة من المذيع عن هذا التقييم غير الواقعي لأعداد المتظاهرين، ليرد المراسل بالقول: "إذا كان من يحتشدون في العباسية 700 ألف، فإن من يتظاهرون في التحرير يزيدون على الـ37 مليوناً".

لا يقتصر الأمر على دولة دون أخرى من الدول التي شهدت أحداث "الربيع العربي"، فكثيرون يتذكرون بالطبع المذيعة الليبية هالة المصراتي التي حاولت أن تعبر عن دعمها للعقيد المقتول معمر القذافي، قبل أن ينجح الثوار في إسقاطه، فلم تجد وسيلة أفضل من رفع مسدس في وجوه المشاهدين، مهددة بقتل كل من يتجرأ على "القائد الضرورة" بضربه بالنار.

شيء من هذا القبيل يحدث في اليمن وسورية وغيرهما من بلدان ما عرف

بـ"الربيع العربي"، حيث يتبادل إعلاميون التخوين وتهم العمالة، وينقسم الجسم الإعلامي في مقارباته الإخبارية في تلك البلدان إلى معسكرين رئيسين؛ أحدهما يدافع عن "الثورة"، والآخر يحاربها ويشن ثورته المضادة ليجهضها، والاثنان يؤكدان أنهما يمثلان الوطنية الحقة، ويجتهدان لنصرة الحقيقة، وكلاهما يستخدم عادة تشويه الحقائق، واختلاق الوقائع، والحذف الانتقائي، وخلط الرأي بالخبر، لكسب المعركة وترجيح كفة المعسكر الذي ينتمي إليه أو يدعمه.

إنها إذن "ثورات الأخبار"، وهي ثورات يفجرها "إعلاميون ثائرون"، بعضهم في موضع "الثورة" وبعضهم في موضع "الثورة المضادة"، وكلاهما مخلص لقضيته السياسية، ويحاول تسخير مهنته لدعمها، وكلاهما ينقل الثورة إلى الإعلام، كما يأخذ الإعلام إلى الثورة، وبدلاً من أن يتضاغط السياسيون في ميادين العمل العام بأدوات السياسة لتحسين أحوال الناس، فإن "الإعلاميين الثائرين" يتضاغطون في الإعلام بالأخبار، فيفسدون الثورة والأخبار في آن.

ثمة طريقة مهنية واضحة لعمل الإعلامي الذي ينقل للجمهور الأحداث الجارية من أجل المصلحة العامة، وهي طريقة سهلة وبسيطة للغاية، لا تتطلب منه سوى شيء واضح محدد: "انجز عملك فقط على الوجه الأكمل، ودع للآخرين الفرصة لإنجاز أعمالهم".

يريد "الإعلامي الثائر" أن يكون نجماً يحظى بالمجد والشهرة والأموال الوفيرة، لكنه يريد أيضاً أن يكون سياسياً يقود الشارع ويصنع السياسة، وقائد رأي يعلق على الأحداث ويرسي الأجندات، ومقاتل في المعركة، أو ثائر في الميدان.

لقد عاد الجمهور العربي إلى الأخبار بعد سنوات من الغرق في مشاهدة برامج الرياضة والترفيه، وباتت وسائل الإعلام العربية أكثر نفاذاً وعمقاً وملاحقة للأحداث ونشراً للمراسلين، لكنها انقسمت إزاء الثورات العربية إلى "ثورة" و"ثورة مضادة"، فأضرت بالمهنة، وأربكت الجمهور، وأفقدته الثقة في وسائل إعلامه الوطنية والقومية، وألجأته إلى مصادر أجنبية ليستقي منها الحقائق قبل أن تحرفها الإيديولوجيات.

* كاتب مصري