يجرجر عامنا الحالي آخر أيامه، ليبتعد مختفياً في دثار الزمن. وأذكر تماماً أنني في صبيحة أول أيامه، وأنا أفتح باب بيتي لجلب الجرائد اليومية، تفاجأت بالزرّاع، وهو رجل جاوز الستين من عمره، يرتب حديقة بيتي الصغيرة. كان الوقت باكراً، وشارع بيتنا لم يزل غافياً في هدأته دونما أي حركة لا لبشر ولا لسيارات:
"صباح الخير". رميت عليه التحية، وأردفتها قائلاً، وشيء من ابتسام يعلو وجهي: "كل عام وأنت بخير". لكنه ابتلع جملتي، هازاً رأسه المثقل بالشيب، ردَّاً على استحياء: "شكرا". كنت قد التقطت الجرائد، لكن كلمته بنبرتها المحايدة وشعور الأسى الذي يغلفها استوقفتني. قدّرت غربته وبعده عن وطنه وأسرته وأهله، وأن لا علاقة له باحتفالات وأعياد رأس السنة، لكنني أحببت جسّ نبض قلبه بمشاعره، فقلت: "أول أيام العام الجديد". ظل منشغلاً بتشذيب أوراق نبتة الفتنة، المنكمشة بسبب البرد. وبتحفظٍ ردَّ قائلاً: "كل الأيام مثل بعضها". بقيت واقفاً أحمل الجرائد، فرفع نحوي وجهاً لوّحه الهم والتعب، بعث يخاطبني: "قليلة هي الأخبار السارة". "صحيح". أجبته، وتركته في الحديقة منسحباً إلى الداخل، وقد انتقل شيء من أساه إلى قلبي. نعم، قليلة وقد تكون نادرة الأخبار السارة، لكن، أليس الفرح هو العابر والاستثناء الذي يؤكد قاعدة الحياة والحدث الإنساني؟ فقاعدة الحياة الأهم هي العمل والكد والتعب والدوران ضمن دولابها اليومي الدائر بسرعته الثابتة دون هوادة، ودون الالتفات إلى أي حدث صغر أو كبر... العمل هو الحياة، وهو نتاج الفكر، وهو الأمل والحلم بغدٍ أجمل وأفضل. عام 2011، هو عام منعطف في تاريخ أقطار الوطن العربي خاصة، والعالم عامة. ففي هذا العام خرجت شعوب الوطن العربي، كبيرها وصغيرها، نساؤها ورجالها، بسلمية تثير الفخر، وبقيادة شبابية لافتة، تنادي بالحرية وبإزاحة الظلم والظالمين، وتطالب بالعدالة والمساواة والكرامة. انتفاضة وثورة الشعوب العربية على القمع والطغيان والدكتاتورية، هذا هو العنوان العريض لعام 2011. ولأن أي انتفاضة أو ثورة، لا يمكن لها أن تشتعل دون وقود، فقد كانت التضحيات الكثيرة التي قدمتها الشعوب العربية من زهرة أبنائها هي الوقود الطاهر الذي أضرم النار في روح واندفاع تلك الثورات. لفَّ وحمل عام 2011 في عباءته الداكنة آلاف الضحايا، آلاف الشهداء، آلاف المحرومين والمعذبين والحالمين بغدٍ أجمل، ووطن يتسع للجميع. رحل عام 2011، وخلّف بعده مساحة رهان كبيرة، بحجم التضحيات التي دُفعت ولم تزل تدفع يومياً لذاك الوطن الحلم. مساحة رهان بأن يكون المستقبل العربي أفضل من الحقب المظلمة والمؤلمة التي انقضت. إن الإنسان العربي، وفي أي قطر عربي كان، له حلمه المشروع بحياة كريمة، حلمه بوطن مرفوع الهمة بحياة كريمة وديمقراطية عادلة. حياة تعطي لجميع أبناء الوطن الواحد الفرصة نفسها، وتحرص على الفرد حرصها على المجموع. كلٌ منا يحمل حلمه الصغير لعام جديد قادم، لكن هذه الأحلام الصغيرة، لا يمكن فصلها عما يجري حولها، لذا فإن مجموع هذه الأحلام إنما يشكل حلم الوطن. وكم هي مشروعة أحلام شعوب أقطار وطننا العربي المترامي من المحيط إلى الخليج. الأمن، الحرية، الديمقراطية، العدالة، السلام، الحب.. هذه أحلام الشعوب العربية، وكم تبدو متواضعة وكم تبدو مشروعة، وآه كم تبدو صعبة المنال! فحين أنظر إلى هذه الأحلام، تأتي إلى نظرة زرّاع حديقتنا المنكسرة، وجملته المؤلمة: "قليلة هي الأخبار السارة". من أين لنا بأخبار سارة؟ السرور عزيز، لكن الحلم به هو شمعة الحياة. ولأنني مجبول من عجينة التفاؤل، أردد متمنياً: "لكم عام جديد يحمل شيئاً من تحقيق أحلامكم الصغيرة.. آمين".
توابل
العام المنعطف!
27-12-2011