بداية بالكتاب الرائد "طبائع الاستبداد" للمصلح السوري الكبير عبدالرحمن الكواكبي قبل قرن- في لفته ذكية أهدت مجلة الدوحة الكتاب لقرائها مع عدد يونيو- حلل فيه شخصية المستبد وعقده النفسية وسلط الأضواء على الاستبداد كأصل في داء "الاستبداد السياسي"، وعرى النخبة الثقافية التي وظفت نفسها لخدمة المستبد وسماهم عبيد السلطة، فقتل بالسم وهو في الثامنة والأربعين، ومروراً بمؤلفات حللت شخصية الطاغية والمؤثرات في تكوينه وأبرزها "الطاغية" لإمام عبدالفتاح- "عالم المعرفة" الكويت 1994- و"الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة" لمجموعة من المفكرين وتحرير د. على خيلفة الكواري- مركز دراسات الوحدة ومشروع دراسات الديمقراطية بيروت 2005- و"القسوة والصمت" الذي صور إبادة الأكراد بالكيماوي لكنعان مكية- دار الجمل 2005- و"كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد" لهشام حافظ وجودت سعيد وخالص جلبي- رياض الريس 2002- و"وراء كل ديكتاتور طفولة بائسة" لمجدي كامل- دار الكتاب العربي 2008، وانتهاءً بـ"من يصنع الديكتاتور- صدام نموذجاً" لسلام عبود - دار الجمل 2008- والتساؤلات المطروحة بإلحاح: كيف يتحول شاب وطني متحمس للحرية بعد توليه السلطة إلى طاغية؟! لماذا ينقلب حالم بالوحدة العربية وداعية للقومية العربية والاشتراكية وتحرير فلسطين إلى دكتاتور؟! ما هي العوامل المؤثرة في دفع ثوار العرب إلى الاستبداد بشعوبهم؟! ما هو تأثير عقد الطفولة المترسبة في جعل بعض حكام العرب فراعنة تحتقر شعوبها وتصفها بالجرذان والجراثيم؟! كيف نفكك البنية التحتية لثقافة الطغيان؟!
هذه التساؤلات تواردت وأنا أتابع الحوار المثير- "الحياة" اللندنية 16- 20 يوليو- مع عبدالرحمن شلقم وزير خارجية ليبيا السابق والذي يعد الأكثر إلتصاقاً بالقذافي من 1975 وحتى 2011 تاريخ انشقاقه على قائده وصديق عمره في مشهد دراماتيكي مؤثر على مسرح الأمم المتحدة أبكى العالم والنفوس التواقة إلى التخلص من نظام قمعي جثم على صدور الليبيين 42 عاماً، قال شلقم كلاماً مهماً عن القذافي وعلاقاته بالزعماء والشخصيات العربية والدولية وعن المليارات التي دفعها لتدبير مؤامرات وانقلابات واغتيالات وتفجيرات لكل من وقف في طريقه أو عارض سياسيته، وبعض هذه الأمور سبق أن كشفها عبدالمنعم الهوني في حديث مطول- "الحياة" 23- 26 فبراير- ويهمنا منه ما يتعلق بتكوين شخصية القذافي والعوامل التي جعلته متفوقاً في الوحشية- وهو الوصف الذي برر به خوان غويتيسولو، الكاتب الإسباني، رفضه لجائزة القذافي في الآداب (200 ألف دولار وميدالية ذهبية) وقال: لا يمكن أن أحمل جائزة تحمل اسم دكتاتور، القذافي ليس ديكتاتوراً، إنه وحش، بينما قبلها الناقد المصري جابر عصفور في حفل بهيج حضره جمهرة من الكتاب!يقول شلقم عن بدايات القذافي "كان شخصاُ بسيطاً جداً في مأكله ولباسه وتعامله، دخل مكتبي ذات يوم وأنا أستمع إلى أوبرا عايدة لفيردي، وكان يرتدي لباساً رياضياً، أغلقت آلة التسجيل فطالب بتشغليها وجلس يستمع ناظراً للسقف ومغمضاً عينيه، فقلت في نفسي: إن هذا الرجل يمكن أن يجعل من ليبيا معزوفة وسيمفونية، كان نحيفاً متواضعاً لا يحب البهرجة والمواكب، وحين كان طالباً كان شبه قديس يواظب على الصلاة والصيام يصوم الاثنين والخميس ولا يدخن ولا يشرب الخمر، كان رفاقه يحترمونه فلا يلعبون الورق في حضوره ولا يدخنون ويسمونه الفقيه، قليل الأكل، يكتفي بلبن النوق، زرته في الصحراء فقدم لي عشاءً بسيطاً وأصر على سكب الماء على يدي قائلاً: أنت ضيفي وأنا أسكب الماء لتغسل يديك... لم تكن السلطة قد أفسدته بعد " كيف غيرت السلطة هذا الإنسان الرومانسي الحالم بعبدالناصر إلى إنسان يرى نفسه مبعوث العناية الإلهية برسالة الكتاب الأخضر كما يقول الهوني؟! كيف أصبحت ليبيا على امتداد 4 عقود في قبضة رجل واحد يعيش في الخيمة وينقل معه الإبل وينظر إلى السماء ويقرر كل شيء ويتدخل في تفاصيل التفاصيل، لكنه لا يوقع أوراقاً ويدعي أنه لا يحكم ثم ينتهي به المطاف ليهدد شعبه بأنه إما أن يحكمهم وإما أن يقتلهم؟! نستخلص من حديث شلقم 5 عوامل مؤثرة في تكوين شخصية القذافي:1- النمط التسلطي في التنشئة الأسرية: كان معمر ضحية تربية قمعية من قبل أبيه كما كان صدام ضحية طفولة بائسة وشديدة القسوة.2- قسوة الظروف المعيشية: جاء معمر من صحراء سرت فقيراً جائعاً، والده كان راعياً فقيراً، كان يأتي للدراسة ماشياً 10 كيلومترات، أحياناً يجد سيارة تعيده إلى بيته وحين لا يجد ينام في المسجد. 3- الإحساس بعقدة الاضطهاد: تعرض القذافي في صغره وفي محيط قبيلته لصور من الإهانة والأذى من قبل عائلة متزعمة في القبيلة. 4- أوهام المشروع القومي الناصري: كان عبدالناصر المثل الأعلى للقذافي سمع بشخصيته فأعاد إنتاجها وتمثلها واحتمى بها ووجد فيها طوق النجاة وساهمت علاقاته المبكرة بهيكل وكتاباته عنه في أن يسوّق نفسه إلى العرب في صورة عبدالناصر الصغير الذي علق على صدره رتبة "أمين القومية العربية"، وامتلأ معمر بالشحنة الناصرية فراح يفجرها في الساحات العربية والإفريقية والدولية كافة.5- الدور الانتهازي للمثقفين العرب: علاقة القذافي ببعض المثقفين علاقة ارتزاقية تشكل فضيحة للثقافة العربية عامة وكما يقول محمد الحجيري "لم تكن مائدة القذافي مفتوحة للصحفيين فحسب فثمة فنانون غنوا له وسياسيون جلسوا على بابه وانتظروا رواتب ميليشياتهم وسماهم القذافي بـ"الجيف" على أن ثمة فئة لم تكن مجبرة على الالتحاق بهلوساته، لكن رائحة المال دفعتها إلى ذلك، هؤلاء هم بعض المثقفين الذين وفدوا إلى بابه ومجدوه وألفوا له الكتاب الأخضر وهو جملة هلوسات، وشعراء عرب نظموا قصائد التمجيد فيه". ويضيف شلقم: لعب بعض الكتاب والصحفيين المشارقة دوراً بارزاً في شحن القذافي بأوهام العظمة وتضخيم الذات حتى اعتقد أنه ملك الملوك ومبعوث العناية الإلهية وحكيم الشرق،وهو نفس الدور الذي لعبه جيش من الكتاب والصحافيين والقانونيين مع صدام: تملقاً وتبريراً ودفاعاً، وهو ما أشار إليه الكواكبي قبل مئة عام بقوله "ما من مستبد في ديار العرب إلا وله بطانة من المثقفين تسبح بحمده وهم سدنة الاستبداد وخدمه في كل الأزمنة والأمصار"، وهي مقولة لازالت صحيحة حتى الآن.هذه أبرز العوامل المؤثرة في شخصية القذافي لكنها لا تقتصر عليه بل تتعلق بالبنية التحتية المنتجة لثقافة الطغيان، وهي بنية تعيد إنتاجها وتدويرها، ومن أبرز مظاهرها: 1- السلطوية: في نمط التربية في محيط الأسرة وفي طرق التعليم في مجال التدريس وفي نظم الإدارة في ميدان العمل وفي أساليب الحوار مع الآخر وفي المنابر التي تبث التكفير والتخوين. 2- ضعف التحصين الجماهيري تجاه ثقافة الاستبداد أو القابلية النفسية للاستبداد بحسب مالك بن نبي. 3- رسوخ ثقافة الكراهية عبر منابر وفضائيات ومؤسسات متمثلة في: تصاعد العصبيات الدينية والمذهبية والقومية والقبلية على حساب مبدأ المواطنة، والتوظيف السياسي للدين وتحميل الآخرين وزر أوضاعنا والخطاب التحريضي. 4- الإيمان بفكرة البطل المنقذ والمحرر أو المستبد العادل الذي سيقودنا إلى النصر وهو ما ورثناه من طريقة تدريسنا للتاريخ باعتباره تاريخاً للقادة والأبطال الفاتحين في تهميش لدور الشعوب، ونجد لهذا الإيمان امتداداً مستقبلياً في عقيدة "المهدي المنتظر". 5- ثقافة الرضا بالطغيان والصبر عليه والدعاء إلى الله تعالى بالهداية والصلاح للحاكم الظالم بأن يرزقه البطانة الصالحة. 6- التضليل الإعلامي: بتزييف وعي الجماهير عبر التلاعب بالعاطفة الدينية والوطنية وشحنها بمقولات المؤامرات الخارجية. إن صناعة الطاغية عملية مجتمعية لا يصنعها الديكتاتور وحده بل يقوم بها جيش لجب من الكتاب والسياسيين والقانونيين المنتفعين وهناك بيئة اجتماعية ثقافية لديها القابلية، وفي خطابه الأخير دعا أمير دولة قطر السياسيين إلى الإنصات مبكراً لصوت شعوبها المطالبة بالعدالة والحرية، وأتصور أن للنخبة الثقافية والإعلامية في تحصين البنية المجتمعية وتفكيك البنية التحتية لثقافة الاستبداد دوراً كبيراً في هذا الشأن.* كاتب قطري
مقالات
البنية التحتية للاستبداد
25-07-2011