نجيب محفوظ وبقاء الإبداع!
بتاريخ 13 أكتوبر عام 1988، حصل الروائي نجيب محفوظ (1911 – 2006)على جائزة نوبل للآداب، ووقتها كان في السابعة والسبعين من عمره، ولقد عاش قرابة ثماني عشرة سنة، ولقب نوبل يسبق ويطوّق اسمه وحضوره الإنساني. عاش محفوظ قرابة خمسة وتسعين عاماً، أمضى جلها بين القراءة والكتابة، حتى إن إحدى مقولاته المؤثرة: "إن الحرمان الأكبر الذي عانيته في حياتي، جاء يوم ضعف بصري وحرمت متعة القراءة". إن كتابات محفوظ الروائية، هي مزيج من فلسفته وإدراكه الإنسانيين لمعنى وقيمة الحياة، وإرادته المبدعة في كتابة رواية حياة، تتصل بواقع وحياة الناس وتؤرخ بفنية ساحرة للحالة الاجتماعية والسياسية والفكرية، وتصل إلى القارئ تاركةً أثراً باقياً في نفسه، وهذا ما يضمن بقاء روايات نجيب حية نابضة.
مشى محفوظ درب الكتابة الروائية، بوصفه درب حياة، وظل يكتب ويكتب، لأنه اختار وارتضى لنفسه أن يكون كاتباً، ولا شيء آخر غير الكاتب. وكان مقتنعاً بأن الكتابة الروائية والقصصية صنعته وعزاؤه، وأنها وحدها تمنحه القدرة على مسايرة وتحمل اضطرابات حياة الواقع القاسية. ولأنه صادق الكتابة وأخلص لها واتخذ منها خليلة لا يروم البعد عنها، فلقد أحبته وأخذته لحضنها الدافئ وبادلته حباً بحب ووفاءً بوفاء، وأخيراً منحته وصلاً بالبشر، أينما كانوا، ما كان له أن يحظى به لولا إخلاصه لها. إن احتفال الساحة الأدبية والثقافية العربية في مختلف أقطار الوطن العربي بمئوية نجيب محفوظ، هو احتفال بأهمية الكتابة العربية الإبداعية واحتفال بدور الكاتب العربي، ولأن الكتابة والكاتب العربيين يعانيان تهميشاً وتجاهلاً كبيرين ومؤلمين، فإن هذه الاحتفالية، تعدّ في أحد وجوهها احتفالاً بالكاتب العربي المبدع أينما كان، وتعدّ من جهة أخرى، احتفالاً بالكلمة المبدعة الصادقة القادرة على البقاء حية ومؤثرة، حتى بعد أن يغيّب الموت صاحبها. "إن مأساة الآدمية تتلخص في أنها تبدأ من الطين وأن عليها أن تحتل مكانتها بعد ذلك بين النجوم" هذه عبارة وردت في رواية "حضرة المحترم"، وكم تأملت فيها سائلاً نفسي: "هل قصد محفوظ الكاتب في جملته هذه؟ وهل أخفى هذا القصد عبر التعميم؟ وإذا كانت حياة كل إنسان تبدأ من الطين، بمعناه المادي والإيحائي، فليس كل إنسان مسكوناً بهاجس احتلال بقعة ولو صغيرة بين النجوم، وربما قلة قليلة تلك التي تفكر في أن تكون لها مكانتها بين النجوم. وإذا صح أن محفوظ قصد بجملته تلك الكاتب تحديداً، ونثر سر نفسه، فما الذي ذاقه وتجرعه ليتأكد أن وصول الكاتب إلى مبتغاه هو مأساة؟ الكتابة الإبداعية معاناة كبيرة وإعمال للفكر والموهبة، لخلق حياة فنية تعيش إلى جوار حياة الواقع، كي تمكّن الإنسان من معايشة حياة الواقع الصعبة والمضطربة وغير العادلة. الكتابة في جوهرها مساعدة للإنسان على تحمل ظرفه الخاص ووضعه الإنساني. ولأن المبدع والكتابة الإبداعية، هما الجسر بين الإنسان القارئ وطمأنينته، فإن ذلك يمنح الكاتب حقه في أن يأخذ مكانته العالية بين النجوم، إن في حياته أو حتى بعد مماته. لقد كان نجيب محفوظ من خلال أعماله الروائية والقصصية، وعبر مسلكه الحياتي نموذجاً فريداً وصادقاً لما يمكن أن تكون عليه حياة الإنسان المبدع. عاش عمره مؤمناً بفعل الكلمة، ولم يقبل غيرَ الكتابة صنعة، ولأنه أعرض وزهد في جميع المغريات الدنيوية البائسة والزائلة، فلقد فاز بالبقاء الأبدي كاتباً معلماً مبدعاً، مرتقياً سلالم النجاح، ومتحملاً مأساة العيش في رهبنة الكتابة المؤلمة، وواثقاً من ارتقاء سماوات عالية، ليأخذ محله بين نجوم كثيرة، لامعة في سماء الإبداع البشري تأبى على الخفوت على مرّ الأزمان والدهور.