انقسم الفرقاء العرب في منظورهم للثورات العربية، الانتفاضات العربية، الحراكات العربية، الربيع العربي، سمها ما شئت.

Ad

هناك بالطبع مجموعة ممن لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب، فعندما كانت الأمة العربية جامدة راكدة ساكنة، يسيطر عليها الوجوم، وتلمع في عينيها إشعاعات الهزائم، كانت تلك المجموعة من مثقفين وساسة وقادة رأي يقولون بملء الفم إن الحالة العربية الساكنة هي قدر لا مفر منه، وإنه، خلافاً لما حدث من تغيير في بداية التسعينيات في أكثر من 68 دولة، فإن إقليم العرب لا جدوى منه، أو -كما نسب إلى سعد زغلول من مقولة شهيرة- «مفيش فائدة»!

وعلى أساس هذه الفرضية الشائهة ركن القوم إلى الدعة، واستقروا نفسياً، وتصرفوا عملياً. بل إن الحكام ذاتهم استرخت عضلاتهم، وأخذوا ينامون ساعات أطول بلا كوابيس، وظهرت عليهم ملامح الحكمة، فأصبحوا يقضون إجازات أطول داخل البلاد وخارجها، فالحكم مرتكز على «الشعب نيام فلا داعي للاهتمام» أو مقولة «نعيش في الربع الخالي فلا تسأل عن أحوالي»، وشيئاً فشيئاً تكونت لدينا وحوالينا خزينة من الأقوال والأفكار، منها المؤلَّف -بفتح اللام- ومنها الديني ومنها السياسي ومنها الكوميدي خلال العقود الأربعة الماضية، مفادها أنه «ليس في الحركة أي بركة» حتى لو ثبت عكس ذلك، و»أعط الخباز خبزه حتى لو سرق نصفه»، فما بالك إن سرقه كله، لا بأس، فقد تسلم على الفتات، وهكذا تبختر الحكام وتسلطنوا وظنوا أنهم نهاية التاريخ، حتى بلغت بهم الجرأة، استناداً على فرضية «النوم الشعبي المستمر»، أن يفكروا في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فحتى تلك التي كانت قد أنهت أنظمة حكم وراثية، جرى التفكير فعلياً في عودة نظام الحكم الوراثي من خلال توريث أبنائهم، منطلقين بالأساس من فرضية الجمود الشعبي الدائم والعبقرية المتزايدة والألمعية المتصاعدة للحاكم وأبنائه، إلا أن عجلة التاريخ، كما يبدو، لم تسعفهم في تحقيق أوهامهم المتضخمة، فحتى من استحلم بنموذج رضا شاه، والذي تصوره البعض نموذجاً ناجحاً لإعادة التاريخ إلى الوراء، لا يبدو أنه كان منتبهاً إلى طراوة الحقبة التاريخية التي جاء بها رضا شاه، ومن ثم خلف ابنه محمد رضا شاه، الذي ومع كل هيلمانه لم يطل به الأمر إمبراطوراً، فتفلشفت أحلام يقظته على قارعة طريق كان يظنه ممهداً.

وهكذا صار الشعب «يريد إسقاط النظام» شعاراً لا مقدمات له ولا سابق إنذار، ولم تنجح كل محطات الإنذار المبكر في رصد تشكل وخلق إرادة الشعب تلك، والتي أسقطت أحلاماً وهوت بعروش الفرضيات الخائبة المرتكزة على أوهام الأنانية والتفرد والعيش الدائم في بروج مشيدة لا ترى الزحف العفوي المتراكم الذي ظل يقرض في تلك البروج برجاً برجاً حتى هوى بعضها والقادم أقوى وأشد.

ومع كل ما تم حتى هذه اللحظة ما زال القوم والفرقاء العرب الذين لا يستوعبون حجم تأريخية الحدث، على نفس الوتيرة السالفة الذكر، ومن الواضح أن اللحظة التاريخية ستتجاوزهم وهم ما زالوا في ذات الزوايا المظلمة يبحثون عن تفسير أو تشويه أو إعاقة أو تثبيط.