حكم إسلامي لكن بنسختين
على حد علمي أن الثورات العربية التي خرجت بتكلفة باهظة الأثمان من سيل الدماء، وفقد للأرواح، خرجت تحتج على الظلم، وعلى الاستئثار بالسلطة، والاستبداد، وحرمان الشعب من التنمية والتطوير، وعلى تسرب مقدرات الشعوب إلى جيوب الفاسدين الذي احتكروا الثروات وتقاسموها بينهم.إذن، ما هذا المطب الكبير الذي أوقع رئيس مجلس الثورة الليبية نفسه فيه حين قال إن الحكم في ليبيا سيتخذ من الإسلام مرجعيته، وإن كل قانون يخرج عن الإسلام سيعطل، وهذا كلام جميل، وكلام معقول، "منقدرش نقول حاجة عنه"، خاصة إذا كنا نفهم أن الإسلام هو دين العدل والمساواة والحرية واحترام مشيئة الآخرين، ومن شاء آمن وشاء كفر، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، لكن عبدالجليل ترك كل هذا وذهب يبسط للناس ما عنى بهذا الكلام، فلم يجد أفضل من أن يعطينا مثالاً عن حكم الإسلام بأنه حرية "الزواج من أربع"، وكأن هذا هو زبدة الكلام.
بالتأكيد، إن هذا فهم كاريكاتيري، لكنني للأسف لست من ابتكره، فبعض الإسلاميين لا يجدون شرحاً أفضل للإسلام سوى بالحديث عن مفهوم تعدد الزوجات، وضربهن، والرجم وقتل المرتد، ثم يلومون الغرب الذي يستغل مثل هذه المفاهيم المغلوطة ضدهم. هل كان عبدالجليل يغازل الثوار ليضعوا السلاح، ويعودوا إلى بيوتهم بتبشيرهم بفسحة من الزيجات، كما كانت تغري التنظيمات الإسلامية شبابها بحور العين، ليذهبوا إلى الموت، سعداء بهذه الوجبات الجنسية السخية.النسخة التونسية رغم اشتراكها في نفس الشعار الإسلامي اختلفت كثيراً، فقد كان المتحدث باسم الحزب امرأة، وللمفاجأة فإنها غير محجبة، وعضوها شاب حليق، ومرشح لها يؤكد أنه لم يشرب الخمر في عمره، لكن لن يفرض خياره هذا على أحد، إضافة إلى حزمة من التطمينات بأن جميع مكتسبات المرأة ستتم حراستها، وأهمها مدونة الأحوال الشخصية، بما فيها من مساواة مع الرجل وحرية للمرأة.هذه النسخة الإسلامية التي تشبه العلمانية، لكن بصورة مؤسلمة، هي الصورة التي أكسبت حزب النهضة قبولاً مبدئياً حذراً من المراقبين الذين احترموا إرادة الناس، لكن في الحقيقة ما حث الناس على اختيار حزب إسلامي ليست مسألة الحقوق هذه. لم تكن الحقوق السياسية هي رأس المطالب، رغم أنها هي الراعية والحامية لحقوقهم من تعليم وصحة وحرية عبادة ومعتقد وتعبير. تلخصت ثقة الشعب في الحزب الإسلامي في قول بعضهم إنه انحاز إلى الحزب الإسلامي لأنهم "يخافون الله"، وهذا الفهم للأسف ليس فهماً سياسياً لآلية الحكم السليم، بل شعبي غوغائي، فكل الرؤساء الذين قمعوا شعوبهم، وقتلوا معارضيهم حين جاؤوا إلى الحكم كانوا يخافون الله. لكن من دون مؤسسات رقابية وقضائية مستقلة، وحرية تعبير تسمح بالنقد والمعارضة، ينسى الذي يخاف الله السبب الذي جاء من أجله، ويصبح جل همه أن يخافه الناس، ويصبح هو الأول والآخر.