- 1 -

Ad

تساءلنا قبل أربع سنوات، وبالتحديد في 5/2/2007 عن الموعد الذي سندخل فيه عصر الحداثة، لكي نتجنب عنف الثورات والفوضى الناشئة عنها، وقلنا: متى نشرب هذه الكأس؟  ولكن يبدو ألا حياة لمن تنادي في ذلك الوقت، ولا في الوقت الحاضر، فمعظم الأنظمة العربية كانت مطمئنة إلى قوة جهازها الأمني القامع لكل ثورة محتملة، ولكن الواقع المفاجئ أثبت العكس تماماً، كما رأينا في تونس، ومصر، وكما نرى الآن في ليبيا، واليمن، وسورية، والبحرين.

- 2 -

الحداثة دعوة شمولية لاكتشاف المجهول، لا تقتصر على جانب معين من جوانب الحياة، وبالتالي فهي ليست قراراً سياسياً، يؤخذ من أعلى، كمكرُمة ملكية، أو عطيّة، أو هبة، أو منحة رئاسية، بل هي رد فعل، لا يأتي من الداخل بقدر ما يأتي نتيجة صدام الداخل مع الخارج، ونتيجة للتفاعل الحضاري، كما أن الحداثة وصف لحالة وتركيب المجتمع، بل هي حركة صراع داخل هذا المجتمع. ومن هنا يمكن وصفها على أنها موقف من الإنسان، وأنها منطق جديد لرؤية العالم، وأن الحداثة رؤيا ثورية تقتحم السائد في عقر داره.

والحداثة ليست قراراً فكرياً يتخذه المفكرون، فهم اليوم وفي الأمس كانوا يتحدثون عن مشروع أسلمة الحداثة أو تحديث الإسلام. المسألة لا تأتي هكذا ضمن مشروع ما، بقدر ما تأتي استجابة للحاجة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إن الحداثة استجابة للحياة ومتطلباتها وضرورات العيش فيها، قد يكون هناك شعب يعيش في العصر الحاضر، ولكنه ليس بحاجة إلى الحداثة، أي أن طبيعة الحياة والفترة التاريخية والاجتماعية التي يحياها لا تتطلب ثورة حداثية في الاجتماع والاقتصاد والتعليم والسياسة، وأن دعوات الحداثة التي تنشأ بين صفوف مثل هذه الشعوب لا تتعدى أن تكون حركات فردية تقوم بها مجموعة محدودة من الشعراء والكتَّاب. وتأتي هذه الحداثة مخالفة لتيار الحياة العامة التقليدي المحافظ، وتظهر كالرقعة الغريبة الناشزة في الثوب، غير متداخلة في نسيج الحياة العامة، وذات خيوط نافرة، وألوان فاقعة.

فالحداثة إذن، لا قرار فيها لأحد، إنها قرار الحياة الشامل، والحداثة، يجب أن تؤخذ بحلوها ومرّها، وهي مريرة جداً بالنسبة إلينا نحن العرب، إنها ككأس العلقم الشديد المرارة، ولكن لا بد منه للشفاء من هذه الأمراض التي تفتك كل يوم بالجسم العربي.

- 3 -

عددّنا في مقالنا السابق سبعة عوامل تؤدي إلى ركوب "سفينة نوح" (الحداثة) والنجاة من عنف الثورة، ولكن العامل الأول والأهم والأقوى، هو أخذنا بالحداثة التي تعتبر "سفينة نوح" العصرية للنجاة من عنف، وقسوة، وفوضى الثورة.

ولكن هناك عوائق هائلة للحداثة السياسية خاصة، في المجتمعات العربية منها عدم الفصل بين الديني والسياسي، وفصل الدين عن السياسة مازال غير مقبول من الوعي الإسلامي، أما عوامل تحقيق الحداثة (سفينة نوح) العصرية للأنظمة والشعوب العربية، فتتلخص في التالي:

1- فصل الدين عن الدولة هو المدخل إلى الحداثة السياسية، بما هي تعددية سياسية وإعلامية، أي التنظيم العقلاني للاختلاف، يصطدم بالوعي الإسلامي المسكون، كأي وعي تقليدي، بثقافة الإجماع التي زادها جرح "الفتنة الكبرى" تشنجاً، فلم تعد ترى الأمة إلا كالبنيان المرصوص. إن ضرورة الفصل بين الدين والعلم، وبين الدين والإبداع الأدبي والفني، لا تقل أهمية عن ضرورة الفصل بين الدين والدولة وبين القيم الدينية والقيم الإنسانية، فالتفسير الديني للظواهر مسكون دائماً بالخوف من منافسة التفسير العلمي لها، كما قال المفكر التونسي العفيف الأخضر ("دور العامل الخارجي في إدخال العرب إلى الحداثة"، "إيلاف"، 3/8/2003).

2- رفض سعي الإسلاميين فرض ثقافة القرون الوسطى على ثقافة الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وانتصار الفرد، وثورة الاتصالات، والمعلومات، والعولمة.

3- معالجة عجز النخب "الحديثة" الفاقدة للشرعية والشجاعة السياسية عن مباشرة تحديث مجتمعاتها المأزومة والمعطلة، فهي مأزومة من حيث إنها عجزت عن الانتقال إلى الحداثة؛ أي إلى الفصل بين الديني والسياسي الذي لا بُدَّ منه لتحقيق الإصلاحات الضرورية، مثل نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني، والتصدي الناجع لمفاعيلها كانتشار الإفقار المطلق، والأميّة، والتهميش، والبطالة، التي تعيق تحديث الاقتصاد والتعليم.

4- تجنب الانفجار السكاني في العالم العربي، وربط تفادي هذا الانفجار بتحسن ظروف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فمن الملاحظ مثلاً أن من أكثر بلدان العالم العشرة غنى وارتفاعاً في الدخل القومي السنوي GDP لا يزيد سكانها على خمسة ملايين نسمة ما عدا اثنتين هما سويسرا (7 ملايين) والولايات المتحدة الأميركية (300 مليون). وعلاقة الرفاهية بحجم الدولة نقاش مطروح منذ أيام أرسطو الذي نادى بتقليص حجم المدن الإغريقية. وقال إن التجربة أثبتت أن الدول ذات التعداد السكاني الكبير من الصعب إذا لم يكن من المستحيل أن تُسيَّر تسييراً مرضياً، وهذا المفهوم عكس ما يراه الآباء المؤسسون الأميركيون، فقد رأى جيمس ماديسون (1751-1846) الرئيس الرابع الأميركي بأن تعداد الدولة السكاني الكبير سوف يساعد على تحقيق الديمقراطية من حيث إنه يقلل من احتمالات سيطرة فئة على أخرى، وهضم حقوقها. ولقد أثار موضوع الانفجار السكاني وأثره في رفاهية الدولة أخيراً، اثنان من كبار الأكاديميين الاقتصاديين الأميركيين هما ألبيرتو آلاسينا الأستاذ بجامعة هارفرد وإينريكو سبولور من جامعة براون في كتابهما (حجم الأمم).

وقد أشارا في هذا الكتاب إلى أن نصف دول العالم الآن لا يتجاوز حجم سكانها ولاية ماساشوستيس (6 ملايين)، ويرى هذان العالمان، أن الدول الصغيرة أسعد حظاً في أوقات السلام، بينما تظل تكاليف الدفاع أرخص في الدول العملاقة، حيث تتوزع تكاليف الدفاع على أكبر حجم من دافعي الضرائب، ويرى هذان الكاتبان أن الدول الكبيرة تستطيع أن تجبي مبالغ هائلة من الضرائب، ولكن لكل هذا ثمن باهظ، وأنه ينطبق على الدول الغنية أصلاً، أما الدول الفقيرة كدول الشرق الأوسط والعالم العربي بصفة خاصة، فلا مجال لها لتحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية غير تحديد النسل، والتقليل من عدد السكان، كما فعلت تونس على وجه الخصوص.

(للموضوع صلة).

* كاتب أردني