في مقالي على هذه الصفحة يوم الثلاثاء 16/3/2011، استعرضت ما قالته المحكمة الدستورية في تفسير النصوص الدستور به وفي التلازم بين المسؤولية والسلطة، وفي ضوابط الاستجواب لتخلص إلى ما خلصت إليه من قصر استجواب رئيس مجلس الوزراء، في حدود اختصاصه عن السياسة العامة للحكومة، وفي سياق تقديرنا لقرار التفسير نستكمل في هذا المقال ما قالته المحكمة وما لم تقله.

Ad

في اختصاص المحكمة

وكان كافياً لعدالة المحكمة أن تقيم اختصاصها على سند من قانون إنشائها في ما نصت عليه مادته الأولى من أن "تنشأ محكمة دستورية دون غيرها بتفسير النصوص الدستورية...." رداً على الدفع بعدم اختصاص المحكمة الذي دفع به مجلس الأمة طلب التفسير المقدم من الحكومة، خاصة أن مجلس الأمة هو صانع هذا القانون، فهو الذي أقره، وهو الذي أعطاها هذا الاختصاص، وهو أول من يجب عليه أن يحترم القانون الذي وضعه بنفسه، احتراماً لمبدأ سيادة القانون، ومبدأ الدولة القانونية وهي القاعدة التي عبرت عنها مقولة فرنسية تقول: Soufre la lôi que vous faîtes tois mêm.

إلا أن البادي أن المحكمة لا تزال تسير على الدرب ذاته الذي أسندت فيه اختصاصها إلى الدستور ذاته في تفسيرها للمادة (173) من الدستور، والتي تنص على أن "يعين القانون الجهة القضائية التي تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين..."، عندما تقدم بعض أعضاء مجلس الأمة باقتراح بقانون بتفسير تشريعي للمادة الأولى من قانون إنشاء المحكمة الدستورية يقضي بأن يكون اختصاصها بالتفسير مقصوراً على المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح أو الطعون الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس الأمة وصحة عضويتهم، ولا تختص بتفسير النصوص الدستورية في غير هذه المنازعات أو الطعون. إذ قررت المحكمة بجلستها المعقودة بتاريخ 14/6/1986 في طلب التفسير رقم 3 لسنة 1986 الذي تقدمت به الحكومة بأن المنازعة الدستورية في مفهوم المادة (173) من الدستور لا تقتصر على مجرد الطعن في دستورية تشريع ما إنما تتسع أيضاً لتشمل تفسير النص الدستوري بصورة مستقلة، لأن طلب التفسير يحمل في ثناياه وجود منازعة حوله وتباين وجهات النظر فيما تعنيه عباراته.

وهو التفسير الذي أدى إلى وأد الاقتراح بقانون سالف الذكر الذي تقدم به الأعضاء بتفسير تشريعي للمادة الأولى من القانون رقم 14 لسنة 1973 بإنشاء المحكمة الدستورية.

وكان وأد هذا الاقتراح بقانون في عام 1986، إضافة أخرى إلى قوة الإلزام التي تتمتع بها في مجلس الأمة قرارات المحكمة الدستورية بتفسير النصوص الدستورية، فقرار التفسير أوقف السير في إجراءات إقرار المجلس لاقتراح بقانون.

ما قالته المحكمة الدستورية

وفي اختصاص المحكمة الدستورية قالت المحكمة في أسباب قرارها بتفسير النصوص الدستورية ما يلي:

حيث إن مجلس الوزراء طلب من هذه المحكمة تفسير نصوص المواد (100) و(123) و(127) من الدستور في ضوء ما يرتبط بها من نصوص دستورية أخرى.

وحيث إنه سبق لهذه المحكمة أن أكدت على أن الدستور نص عليها في صلبه، كافلاً بها للشرعية الدستورية أسسها، مقيماً منها مرجعاً نهائياً لتفسير أحكام الدستور، وهي تباشر اختصاصها ومهمتها طبقاً لقانون إنشائها منذ ما يقارب الأربعين عاماً، وبالتالي فإن اختصاصها في هذا الشأن لا يصح أن يكون محل جدل.

ولا نختلف مع المحكمة في هذا القضاء، بأن اختصاصها تفسير النصوص الدستورية، في غير منازعة بعدم دستورية قانون من قوانين الدولة، هو اختصاص مقرر وثابت لها، وإن اختلفنا معها في الأساس الذي تستند إليه، إذ ما زلنا عند رأينا الذي نحرص على التأكيد عليه، بأن اختصاصها بالتفسير إنما نستمده من قانون إنشائها، وليس من الدستور، فقد أضاف القانون رقم 14 لسنة 1973 الصادر بإنشائها إلى اختصاصها المنصوص عليه في المادة 173 من الدستور، اختصاصاًَ جديداً، هو تفسير النصوص الدستورية، استقلالاً عن المناوعات المتعلقة بدستورية القوانين.

في قبول طلب التفسير

قالت المحكمة في الأسباب التي بنت عليها قرارها أن الخلاف في وجهات النظر بين الحكومة ومجلس الأمة، حول المقصود بعبارة "السياسة العامة للحكومة" التي وردت في المادة 123 من الدستور، والمقصود بعبارة "السياسة العامة للدولة" الواردة في المادة 58، قد أثار لبساً حول نطاق وحدود مسؤولية رئيس مجلس الوزراء عن السياسة العامة أمام مجلس الأمة، وقد قصرت المادة 127 من الدستور اختصاص رئيس مجلس الوزراء على رئاسة المجلس والإشراف على تنسيق الأعمال بين الوزارات، وهو أمر يفيد بجلاء بأهمية طلب التفسير، باعتبار أن محله يعكس خلافاً دقيقاً وعميقاً، ويؤكد بوضوح اعتصام كل من مجلس الأمة ومجلس الوزراء بوجهة نظره، وأن هذا الخلاف إنما يرجع الحكم فيه لنصوص الدستور، الأمر الذي يتوافر معه في الطلب الماثل والحال كذلك- مناط قبوله.

في السياسة العامة للحكومة

وفي تحديد المقصود بالسياسة العامة للحكومة التي يسأل عنها رئيس مجلس الوزراء، فرقت المحكمة بينها وبين السياسة العامة للدولة، عندما قررت المحكمة في تسبيب قرار التفسير:

1- أن عبارة "السياسة العامة للدولة "الواردة بالمادة (58) وعبارة "السياسة العامة للحكومة" الواردة بالمادة (123) لا تستويان معنى ودلالة، فلفظ "الدولة" إنما يعني الدولة بمعناها الواسع، ولفظ "الحكومة" إنما يعني (الوزارة) وهي الهيئة التي يتشكل منها مجلس الوزراء، وعبارة "السياسة العامة للدولة" أعم وأشمل في التعبير من عبارة "السياسة العامة للحكومة" كما أن الأصل في السياسة العامة للحكومة أنها متغيرة بتغير الحكومات، بينما السياسة العامة للدولة تتسم بقدر من الثبات لمدة طويلة، وتتعلق بالتوجهات العامة للدولة ذات الأهمية، التي لها آثارها السياسية في شؤونها الداخلية والخارجية، والمرتبطة بمصالح الدولة العليا، للعمل على سلامة أمنها في الداخل والخارج وإقامة العدل وحفظ النظام، وبالجملة ممارسة الدولة لوظائفها الرئيسة.

2- أما السياسة العامة للحكومة التي يرسمها مجلس الوزراء فهي تعني الإطار العام الذي تتخذه الحكومة نهجاً لها في توجيه العمل الذي تسير على خطاه وزارات الدولة ومصالحها، وما تنوي الحكومة النهوض به من أعمال ومشروعات وخطط مستقبلية في المجالات المختلفة، والتي تضمنها الحكومة برنامجها، وتقدمه إلى مجلس الأمة عقب تشكيل كل وزارة جديدة حتى يتيسر للمجلس الإلمام بهذا البرنامج، وإبداء ما يراه من ملاحظات عليه، ومن ثم فإن المسؤولية التضامنية أمام الأمير والتي تشمل بالتبعية فيها الوزراء جميعاً، لا تقتصر على السياسة العامة للدولة فحسب، بل تتسع لتشمل السياسة العامة للحكومة أيضاً.

ما لم تقله المحكمة عن السياسة العامة للدولة

وقد كانت المحكمة الدستورية موفقة غاية التوفيق في التفرقة بين عبارة السياسات العامة للدولة الواردة بالمادة 58، التي تتسم بقدر من الثبات، والسياسة العامة للحكومة الواردة بالمادة (123) والتي تتغير بتعاقب الحكومات.

كما كانت المحكمة الدستورية موفقة كذلك، عندما قررت أن السياسة العامة للدولة، هي أعم وأشمل من السياسة العامة للحكومة.

إلا أن ما خلصت إليه المحكمة الموقرة من أن كل استجواب يراد توجيهه إلى رئيس مجلس الوزراء، يقتصر نطاقه في حدود اختصاصه في السياسة العامة للحكومة، قد طرح سؤالاً مهماً لم تجب عنه المحكمة وهو: هل يعني ذلك أن رئيس مجلس الوزراء لا يسأل ولا يوجه استجواب إليه في حدود اختصاصه عن السياسة العامة للدولة، إذا وقع تقصير من الحكومة مجتمعة في قرارات أو مواقف تبناها مجلس الوزراء في تنفيذ السياسة العامة للدولة؟

وفي رأيي المتواضع أن المحكمة لم تكن تقصد ذلك، والسياسة العامة للدولة أعم وأشمل من السياسة العامة للحكومة، حسب ما رأته المحكمة الدستورية في قرار تفسيرها سالف الذكر.