ديبورا ك. جونز سفيرة الولايات المتحدة الأميركية السابقة في الكويت، التي غادرتنا منذ أسابيع، دبلوماسية مخضرمة منذ 30 عاماً في وزارة الخارجية الأميركية، ومن يطلع على سيرتها الذاتية يتأكد من عمق خبرتها ورفعة تأهيلها، وهو سلوك اعتمدته الإدارة الأميركية منذ عام 1991 باختيار صفوة الدبلوماسين الأميركيين لشغل منصب السفير في الكويت لأهمية دوره في تطورات العراق والمنطقة، تقارير ديبورا السرية التي كتبتها عن أحوال الكويت طوال أربع سنوات لحكومتها أصبحت متوفرة للجميع من خلال موقع "ويكيليكس" بتصنيفها وتواريخها وأرقام اعتمادها في سجل الخارجية في واشنطن مما لا يدع مجالاً للشك أو النفي.

Ad

وأخطر ما ضمنته تلك الدبلوماسية المحترفة في تقاريرها توقعها بأن يكون وجود الكويت كدولة على المحك في عام 2020، البعض لم يعر ذلك أي اهتمام واعتبره مجرد كلام عابر، بينما هناك من يدرك مدى جدية تقارير الدبلوماسيين الأميركيين وقدرتهم على تصنيف المعلومات والتأكد من جديتها وجمعها وصياغة نتائج منها وتنبؤات مستقبلية، وهو أحد أسرار قوة أميركا كدولة عظمى، ومصداقاً لذلك فإن تقارير السفارة الأميركية في القاهرة التي كانت تقول منذ 2005 إن مصر على صفيح ساخن وإن الشارع المصري قابل للانفجار في أي لحظة تحققت في عام 2011، وكذلك تنبؤهم من قبل بغزو صدام للكويت.

السفيرة جونز فصلت في تقاريرها المجتمع الكويتي، والظريف أنها بعد أن كانت تقف أمام الكاميرات بابتسامة عريضة كدبلوماسية في مناسبات مختلفة مع بعض الأعيان والفعاليات الاجتماعية والاقتصادية  الكويتية، كانت بعد ذلك، وعندما تغلق عليها مكتبها تكتب تقاريرها كسفير محترف بإنصاف وطريقة علمية ووفقاً للمعلومات، تصفت هؤلاء الأعيان والفعاليات بأنهم "ناهبين لبلدهم" عبر العقود والمناقصات ولا يقدمون بالمقابل شيئاً يذكر لوطنهم ويستخدمون فوائض تلك الأموال لإفساد الحياة السياسية، وتستنتج وفقاً لمراقبتها للأحداث في الكويت أن شرائح أخرى تدمر النظام والقانون في البلد وتجره الى وضع من الانغلاق والتطرف الذي يضرب في الصميم معنى وجود الكويت كدولة، وتخلص السفيرة إلى أن الفاعلين في مسيرة الأحداث في الكويت يتصرفون وكأن دولتهم مؤقتة الوجود.

وبعد ذلك، من الطبيعي أن تنهال الاتهامات على السفيرة من المتضررين مما كتبته وكذلك بيانات النفي التي لن تغير من وقائع تقاريرها شيئاً فهي دبلوماسية محترفة تخدم بلدها فترة معينة لدينا ولا تمتلك أي معرفة أو خصومة مع أي طرف في الكويت، وإن كان هناك بعض التطاول على رموز يحترمها الشعب الكويتي في تقاريرها، والسيدة جونز كذلك لا تسعى إلا للتميز في خدمة وطنها، ولو لم تكن دقيقة وصادقة في عملها وفقاً لمعاييرهم العملية العالية لتعرضت للجان التحقيق والمساءلة من وزارة الخارجية والكونغرس الذي عينها في المنصب.

والمنطق أيضاً يفرض تساؤلاً على من اتهم السيدة جونز بإثارة الفتنة في الكويت وهو: كيف لها أن تستهدف إثارة الفتنة في البلد في تقارير كان من المفترض أن تظل سرية التصنيف لولا اختراق صاحب  الــ"ويكيليكس" لقاعدة البيانات الأميركية ونشرها بعد ذلك للعامة؟!

الحقيقة أن تقارير ديبورا هزت كيان كل من اطلع عليها أو على بعض منها وخاصة الاستنتاجات أو التعليق الذي ينتهي به كل تقرير، ولو تم التعامل مع ما جاء في تلك التقارير من سلبيات فهو أفضل من الشركات الاستشارية التي تكلفها الدولة لبحث مستقبل البلاد وتقاريرها المنمقة التي لا تستهدف إغضاب من يدفع لها، بينما تقارير ديبورا مباشرة وصادمة للمقصر والمتهاون. فهل هناك من سيتعامل بجدية مع تنبؤات الدبلوماسيين الأميركيين لمستقبل الكويت؟!