أهذا جيب عميل!
دائماً وأبداً وعلى مدى سنوات الرعونة القومية كانت منطقة كردستان العراق يسميها "المتعنصرون" الجيب الإسرائيلي العميل، ولقد ذهب بعض هؤلاء بل كل هؤلاء إلى إنكار وجود شعب كردي وأمة كردية، واعتبروا الملا مصطفى البارزاني مرة عميلاً لشاه إيران ومرة أخرى تسخِّره مؤامرة دولية لضرب وحدة العراق والتصدي لتجربته "الرائدة"! واعتبرت حركته التحررية مؤامرة إمبريالية - صهيونية ضد الأمة العربية ووحدتها ورسالتها الخالدة!كل هذا وقد شهدت سنوات الستينيات من القرن الماضي، وبعد ذلك، عمليات تشويه شاركت فيها قوى متعددة لحركة التحرر الكردية ولزعيمها الملا مصطفى البارزاني ولقوات البشمركة، إلى أن بدأت تتضح الأمور على حقيقتها منذ بدايات تسعينيات القرن الماضي، إذ تحولت منطقة كردستان العراق إلى موئل للحركة التحررية العراقية التي ناهضت نظام صدام حسين، والتي بقيت تعمل وتقيم التحالفات إلى أن أسقطته في النهاية.
لاشك في أن الزعيم القومي للأكراد كلهم, الذين في تركيا وفي إيران وفي العراق وفي سورية أيضاً, مسعود البارزاني، الذي ورث هذه المسؤولية عن والده وعن عائلته المشهورة بدورها التاريخي في تبني حقوق الشعب الكردي، ملتزم وطنياً وقومياً بمطالب شعبه وأمته، لكن في الوقت ذاته لا شك في أنه أظهر ولايزال يظهر حرصاً على وحدة العراق، وإبعاده عن التمزقات الطائفية التي تهدده وخاصة في هذه الفترة. إن هذا الرجل (مسعود البارزاني) وطني وقومي كردي، وهو يفتخر بهذا، وبقي يعمل من أجله منذ أن كان شاباً متحمساً قضى معظم وقته في الجبال بين مقاتلي "البشمركة"، لكن ومع ذلك فإنه في الوقت ذاته يتمسك بانتمائه إلى العراق, كل العراق كوطن, ويتمسك بالأخوة الكردية - العربية، بل ويعتبر أن الأمتين الشقيقتين في هذه المنطقة هما هاتان الأمتان، وأنه كانت لهما تجربة تاريخية مشرِّفة وموضع افتخار، وأنه يجب استعادة هذه التجربة وإن بأشكال تلائم مقتضيات هذا العصر الذي هو عصر تحرر الشعوب وتبلور القوميات.والآن وقد أنجز إقليم كردستان العراق، وخلال أقل من عقدين من الزمن، تجربة رائدة عمرانية وحضارية رائدة بالفعل، إذ أصبحت أربيل تضاهي أهم عواصم الشرق الأوسط المتقدمة، وعملية البناء مستمرة بوتائر متلاحقة عالية، بينما عشرات الجامعات والمعاهد العلمية باتت تنتشر في كل مناطق المنطقة وعلى أعلى المستويات، فإن الأهم من كل هذا هو أن هذه المنطقة التي كان يسميها العنصريون والمتعصبون "الجيب العميل" غدت مرجعية الوحدة العراقية، وعامل فك النزاعات بين من لاتزال تلوثهم وتستبد بهم النزعات الطائفية، وهذا هو ما يجري الآن حيث استل نوري المالكي السيف المذهبي من غمده، وأعلن حرب الثأر التاريخي على الذين من المفترض أنهم شركاء أساسيون في هذا الوطن.كل خلافات العراقيين باتت تحل في كردستان العراق، والمشكلة المتفجرة الآن سببها أن نوري المالكي قد استغل رحيل الأميركيين وبادر إلى ركوب أمواج هذا المد المذهبي الذي ترعاه طهران من دمشق إلى ضاحية بيروت الجنوبية إلى اليمن إلى البحرين وأيضاً إلى غزة، بدءاً بإلغاء اتفاقية أربيل المعروفة، وصولاً إلى ملاحقات كبار المسؤولين العراقيين وبدوافع طائفية للأسف.