من يتابعني يعلم تماما أني من عشاق التقنية، وممن لا يتأخرون دقيقة واحدة عن ركوب أي قطار "تكنولوجي" جديد يتحرك في أي اتجاه، أولاً من باب حب الاستكشاف والتعرف على هذا الجديد المذهل، وثانياً وهو الأهم، إيمانا مني بأن المستقبل للتقنيات الحديثة، وأن من سيتأخر عن الأخذ بالمفيد منها ستفوته فرص التطور وسيسقط في آخر الركب.

Ad

ابتدأت بهذه المقدمة، حتى لا يظن أحد أن معارضتي لمشروع "فلاش ميموري" الذي تتجه وزارة التربية إلى توزيعه على الطلاب في المراحل المختلفة، يأتي لأني من التقليديين الذين لا يدركون أهمية التقنيات الحديثة سواء في التعليم أو غيره.

لا يا سادتي، اعتراضي على المشروع مستند إلى كوني رأيت فيه ثغرة، بل ثغرات كبيرة، ولاعتقادي أن هناك بدائل أفضل، ولعلها تكون أوفر. تقوم فكرة وزارة التربية، أو كما يشيع بين من يتداولون الموضوع، فكرة الوزير أحمد المليفي بنفسه، على توزيع "فلاش ميموري" يحتوي على المناهج الدراسية على كل الطلبة في المدارس الحكومية، وأن هذا المشروع يأتي لمعالجة مشكلة الوزن الثقيل للحقيبة المدرسية وكذلك أخذاً بالوسائل الحديثة في التعليم. كلام جميل براق في ظاهره، ولكن جمال الظاهر وبريقه لا يعني شيئا كثيرا بحد ذاته، وكثيرا ما سقط عند تمحيص التفاصيل سقوطاً ذريعاً، وكما قيل في الحكمة: "الشيطان يكمن في التفاصيل". لنأخذ الحكاية خطوة خطوة، فليس الأمر مجرد "فلاش ميموري" سيتم توزيعه على الطلاب، وكذلك ليس أن المشروع كانت قيمته قرابة النصف مليون دينار وتم تخفيضها إلى النصف تقريباً، بفضل جهود المسؤولين في وزارة التربية، كما حلا للوزير أن يقول في تصريحه، بل الأمر أعقد بكثير.

هل درس المليفي مسألة الإجراءات الإدارية لتوزيع هذه الفلاشات على الطلبة، وآلياتها وعراقيلها؟ وكم ستستغرق؟ وكم ستتكلف من الجهد والمال؟ وهل ستؤثر في مسار العملية التعليمية أثناء ذلك أو لا؟ وهل درس المليفي مسألة أن كل تقنية ستكون فيها مشاكل في بداية انطلاقها بطبيعة الحال؟ وهل هناك جهاز دعم تقني وفني لمتابعة تساؤلات واحتياجات عشرات الآلاف من الطلبة الذين سيستخدمون هذه "الفلاشات"؟ وكيف سيتم التواصل مع هذا الجهاز من قبل عشرات المدارس؟ وكم سيكلف جهداً ومالاً؟ وهل درس المليفي احتمال ضياع "الفلاش ميموري" من الطلبة، وحاجتهم إلى البديل؟ أهناك بديل، أم أن على الطالب أن ينسخ محتويات "فلاش" زميله حينها، مع احتماليات انتقال الفيروسات وانتشار الأعطال؟ وهل درس المليفي أن "الفلاش ميموري" الذي سيستبدل به الحقيبة التعليمية سيحتاج إلى جهاز كمبيوتر لاستخدامه؟ وهل هذه الأجهزة متاحة لكل الطلبة في المدارس، أم أن الطلبة سيحضرونها من منازلهم؟ وهل سيثقل هذا كاهل الأسر ماليا؟ وهل درس المليفي بأن هذه الأجهزة ستحتاج دعماً فنياً أيضا لضمان تشغيلها لمحتويات هذه الفلاشات؟ وهل هذا الجهاز موجود اليوم لدعم عشرات المدارس وعشرات الآلاف من الطلبة؟ وهل درس المليفي أن هذه التقنية ستحتاج إلى أن يكون المعلمون قد تم تدريبهم وتجهيزهم للتعامل معها، وللإجابة عن تساؤلات الطلبة حيالها؟ فهل تم ذلك، وكم سيتكلف جهداً ومالاً؟

والأهم من هذا كله، هل درس المليفي فكرة أن المواد التعليمية كان بالإمكان وضعها جميعا على الإنترنت، في موقع يجهز لهذا الغرض، فيكون متاحا لجميع الطلبة لتحميل المناهج الدراسية التي يريدون مرة واثنتين وثلاثاً وعشرا بأنفسهم دون الحاجة إلى وجود "فلاش ميموري" أو غيره، وبعيداً عن الحاجة إلى متابعة من استلم "الفلاش" ومن لم يستلم، وأي "فلاش" يعمل وأيها معطوب، وبتكلفة أقل مما تكلف حالياً؟ وهل درس المليفي أن هذا الموقع من الممكن أن يكون تفاعلياً، يحتوي على المناهج وفق آخر تقنيات الصوت والصورة والفيديو، وأن يحتوي كذلك على تمرينات واختبارات لمساعدة الطلبة في المواد المختلفة، لو أرادوا ذلك؟ وهل؟ وهل؟ وهل؟!

يا سادتي، ليس في الأمر أي تحامل شخصي على المشروع، لكنني بالفعل لا أفهمه بهذه الصورة الهزيلة المطروحة... ولن أحاول شخصياً مجرد التفكير بأن في الموضوع "تنفيعا" عبثيا لطرف ما، لأني أحسب الوزير المليفي، والله حسيبه، أنظف من هذا... لكنني فعلاً لا أفهم المشروع بصورته الحالية غير المتوافقة مع البدائل التقنية المتاحة!