دائماً أؤمن أن المناسبات تحمل فرص التغيير، حين يمر عيد ميلاد صديق انقطعت أواصرك معه، أو قريب عصفت بمودتك معه عاتيات الحياة يمكن لرسالةٍ أن تبدأ بردم الثغرة، فالقلوب يمكن أن تجبر، وأنا لا أقتنع بالبيت الشعري القائل:

Ad

إن القلوب إذا تنافر ودّها # مثل الزجاجة كسرها لا يجبر!

بل المناسبات يمكن أن تعيد ما انثلم من المحبة، وترتب ما انهدّ من الحب والعلاقة، سواء كانت المناسبات اجتماعية، أو شرعية دينية، كلها تعيدنا إلى أصالة الحب الذي يحمله الإنسان. رمضان يمنحنا هذه الفرصة، فرصة التآلف والتواد. جرّب أن ترسل رسالةً إلى شخصٍ يعزّ عليك، أو يبعد عنك، أو إلى قريبٍ تخاصمت معه، لتجد في روحانية الشهر الكريم ما يغسل حياتك، ويجدد في عروقك دماء الصفاء والنقاء.

هذا الشهر العظيم يمكن أن يكون فرصةً لتغيير كل حياتنا. علاقتنا بالله، ثم بالناس، بالفقراء والمجتمع، وهو ميدان إصلاحي للذات أولاً، والصيام كتب على المؤمنين «لعلهم يتقون» والتقوى لا ترتبط بالشعائر الدينية فقط، بل وبالشعائر المدنية. التقوى أن تتقي ما يغضب الله، وما يغضب الناس، التقوى فضيلة ذاتية، إنها اتقاء كل الأخلاقيات السيئة وأراذل التصرفات والمساوئ الذاتية.

مجتمعاتنا الخليجية محافظة في عمقها الاجتماعي، ومتدينة في وجدانها، لكن هذا لا يعني أننا نجحنا في استيعاب رمضان بمفهومه الروحي الداعي إلى التغيير الذاتي. وإذا كانت التقوى يمكن أن تغيرنا مدنياً واجتماعياً بالإضافة إلى فضيلتها الدينية، فإن التجلد أيضاً يمكن أن يمنحنا إياه عبق هذا الشهر.

درجات الحرارة العالية التي وافقت هذا الشهر، يجب أن لا ترتبط بالتأفف، ولا بالضجر، بل يمكن للإنسان أن يبتسم وهو يتجلد مواجهاً حظوظ النفس، يمكن أن ينعكس التجلد هذا لا على إتمام الصيام فقط، بل على كل منعطفات الحياة. يحاول الإنسان أن لا يتأفف من أي عملٍ يقوم به، أو أي جهدٍ يبذله. يمكن لهذا الشهر أن يمنحنا قيمة الصبر، حينها يكون شهراً يغيّر ذواتنا، وبه نترك ونهجر التأفف الدائم الذي ارتبط بحياة الخليجيين المترفة، حيث يتأففون وهم في إجازة، يتقلبون تحت أجهزة التكييف وتطهى لهم أفخر الأطعمة. إن التأفف يغفل الإنسان عن النعيم الذي يعيشه وهو لا يدركه أصلاً.

من التغيير الذي يمكن أن نستمده من هذا الشهر الروحانية التي دمرتها ماديات الحياة واليوميات. بحيث يكون لدى الإنسان ساعة صفاء، يكون فيها قريباً من ذاته، مناجياً له، محاسباً إياها لا دينياً فحسب وإنما اجتماعياً ومدنياً، عن الذين يمكن أن يكون ظلمهم، أو اغتصب أموالهم، أو هضم حقوقهم، هذه الروحانية هي التي نحتاجها من هذا الشهر، في ظل أزماتٍ تحدث للأسف بين الأخ وأخيه، وبين العائلات على قضايا الإرث، أو أكل مال الأيتام، أو التقصير مع من يستحق التقدير من والدين أو أبناء أو عائلات. إن الصفاء هو التغيير الأهم في هذا الشهر، وهو الذي يجعل من أي مجتمعٍ أكثر إنسانيةً وإشراقاً.

إن رمضان –أيها السادة- شهر مراجعة ونقد ذاتي، للسير بالذات نحو الأفضل، نحو المجال الأرحب، إنه ليس شهر إسراف في المأكل والمشرب، ولا شهر عباداتٍ شكلية، إن الشهر أعم من ذلك بكثير إنه شهر الروح، والتغيير الأخلاقي والاجتماعي، شهر صفاء الذات ونقائها، والرحيل بها نحو محيطٍ لا حدود له من الحب وغزارة الأمل، وفضاءٍ من الرؤية الإيجابية للأشياء والبشر.

ليكن رمضان شهر التحول الذي ننشده، لا شهر التأفف والتوجع والتألم!