لو كنتُ عموداً...
لربما اتّخذتُ ركنا قصيّاً في صفحة جريدة... أحتضن ألوان الحبر، وجسد الكلمات التي تبحث عن دفء، والكلمات التي تَهِبُ الجمر، والأخرى المحرّضة على إشعال النار، وكنت ملجأ ومنطلقا للأصوات التي تخشى أن يكون مآلها للرماد. لو كنت عموداً... لربما اعتمرتُ على رأسي إضاءة صفراء، ووقفت في زاوية ما في أحد الأحياء الفقيرة، أحمي الخطوات الهرمة عثرات الطريق، ويمدّ نوري يده ليأخذ بأيدي المسنّين ليعبروا الطريق بأمان، أو لربما أصبحت متكأ لظهر عاشق يقرأ رسالة أخذها للتوّ خلسة من تحت باب محبوبته، أشاركه فرحة قراءة حروفها الخضراء، ورائحة عطرها الطازج، وأكثّف بقع ضوئي على بعض المناطق المشتهاة فيها، ليعيد العاشق قراءتها مرارا وتكرارا، وأنا أستمع لخفقان قلبه الذي يكاد يطير طربا، ويختفي في عينيه الشارع، والبيوت، والمارّة، ولا يعود يرى سوى تلك الرسالة وأنا من خلال ضوئي الذي يساعده على السفر في كل حرف من حروف الرسالة. لو كنت عموداً... لربما كنتُ سارية لعلمٍ يمثّل رمزا للحرية والاستقلال، وكلما طالت قامتي أحسّ ذلك العلم بالكبرياء، ولربما كنت شاهدا على تاريخ من التضحية والفداء امتد إلى اللحظة التي تسّلق جسدي ذلك العلم حتى وصل هامتي، وشاركته لذة الانتصار. لو كنتُ عمودا... لربما كنتُ صاري سفينةٍ يسند عزيمة شراعها على تحدّي الرياح، وشراسة الأمواج، وساهمت في عبور تلك السفينة عباب البحر إلى أن أسلّمها لزغردة نوارسٍ تزغرد وحضن مرفئ، ولكنت ازددت اعتداداً بنفسي لأنني ساهمت في صناعة فرح تلك اللحظة. لو كنتُ عمودا... لربما كنت أحد الأعمدة المصطفّة في الطريق المؤدي إلى إحدى القرى النائية ممسكا بسلك يصل إلى عمود آخر يبعد بعض عشرات من الأمتار عني في مهمة «إنسانية» لإيصال الكهرباء إلى تلك القرية النائية لتنعم بالنور ومتعة الحياة، ولتخيّلت مساهمتي في إدخال البهجة في قلوب الأطفال الذين يشاهدون التلفاز في تلك القرية، أو مساهمتي في تسريب الدفء في كفين ترتعشان من شدة البرد في ليلة شتائية قارصة. لو كنت عمودا... لربما كنتُ الآن أتوسّط خيمة أرفعها عالياً، وأشدّ من أزرها لتقف شامخة في العراء لا تقع، وقد لا تكون تلك الخيمة منسوجة من شعر الماعز أو وبر الإبل، لربما كانت تلك الخيمة حلما مغزولا من شرايين الصبر وسهد العيون. لو كنتُ عموداً... لربما كنت أحد العمودين اللذين شكلا صليب المسيح عليه السلام، ولتبارك جسدي بجسده الملتصق بي، وتباركَت مسامتي بدمه النازف عليّ، ولكنتُ شاهد لحظة تاريخية تبقيني في ذاكرة الزمن، وخلدتُ إلى أن يشاء الله. لكنني لستُ عموداً... أنا مجرد بشر لا أكثر...! وربما كنتُ أحد أولئك البشر الذين يقوّضون مساحة الفرح في حياة آخرين، ويُغلقون نوافذ الأمل في وجوههم، أنا مجرد بشر... تغريني الخطايا أكثر مما تغريني العصمة، أستعذب طعم الذنْب، أكثر من استعذابي طعم التوبة، أنشغل بحقل اليأس، أكثر من اهتمامي بزهرة أمل لو كنت عمودا... لربما كنتُ «فزّاعة طيور» أحرس زهرة الأمل تلك لتكبر... ولكنني بشرٌ... للأسف!
توابل
لو كنتُ عموداً...
09-02-2012