كان لافتاً الجانب الساخر والشامت ربما لتصريحات جاءت من إيران وسورية وليبيا تعليقاً على الاضطرابات التي عمَّت لندن وعدداً من المدن البريطانية. فإيران دعت بريطانيا إلى «ضبط النفس» في تعاملها مع المحتجين، وسورية علقت بما في نفسها «إن كانت الحكومة البريطانية تقول بأن المتظاهرين ليسوا إلا مجموعة من الخارجين على القانون، فلماذا لا يصدقنا أحد عندما نقول إن بعض المتظاهرين السلميين السوريين يحملون السلاح؟»، وكالعادة فإن «الجراند فينالي» يأتي من القذافي الذي اتهم رئيس وزراء بريطانيا بأنه يستخدم مرتزقة من اسكتلندا وأيرلندا لقمع المتظاهرين، بالطبع القصد هو لماذا تعيبون عليّ استخدام المرتزقة في قتل الثوار الليبيين؟

Ad

فإذا استبعدنا الجانب الساخر من تعليقات دول شامتة، فإن تساؤلاً مشروعاً يطرح نفسه حول مسببات ما حدث من اضطرابات وعنف في بريطانيا، ودرجة تشابهه مع تسلسل أحداث «الربيع العربي».

في فبراير الماضي، شاركت في عدد من الندوات والمحاضرات في أوروبا حول تشخيص ما حدث في العالم العربي، حينها كانت تونس ومصر فقط. لفت انتباهي أحد الباحثين البريطانيين الذي توقع أن لندن مقدمة على صيف ساخن وأن اضطرابات ستعصف بها. كان ذلك استتباعاً لسؤال طرحته بسبب مقالة نشرت في مجلة بروسبكت الرهينة للباحثين إيدهاوكر وشيفا مالك يحللان فيها أسباب عزلة الشباب البريطانيين وفشل الساسة والنظام السياسي في ضمهم للتغيير من داخل النظام. المؤشرات في ذلك كثيرة ومتنوعة ربما كان أحدها احتلال طلبة جامعة كنت لمبنى الإدارة في يناير 2010 لمدة 30 يوماً احتجاجاً على تخفيض الإنفاق الحكومي على الجامعات، ورفع المصاريف وهي مسألة ضارة بالطلاب الفقراء، بالإضافة إلى تراجع مستوى المعيشة مما أضر أيضاً بالطبقة الوسطى المتراجعة في دخلها. منذ ذلك الحين شهدت بريطانيا تحولاً في المزاج الاحتجاجي آخذاً في التصاعد في كل مناحي الحياة، من المظاهرة الكبرى «المليونية» التي نظمتها نقابات العمال في مارس 2011 إلى مظاهرة المعاقين في أبريل وغيرها. كانت الأهداف تختلف بشدة ولكن جمهور الشباب تحديدا كانوا يفضلون الاحتجاج المباشر، بالاعتصام وإغلاق الطرق وتهشيم النوافذ.

تعددت الأسباب لدرجة أن وزير الثقافة جيريمي هنت تمت مقاطعة كلمته في جامعة لندن من الطلبة احتجاجاً على صفقة كان مقدراً لها أن تتم مع روبرت مردوخ للسيطرة على شبكة «سكاي» الذي ثبت لاحقاً درجة فساد مؤسسته نيوز إنترناشيونال ومن ثم إلغاء الصفقة. تحولت الاحتجاجات شيئاً فشيئاً إلى حملة ضد قطع الدعم الحكومي إلى حملة ضد الأغنياء الذين لا يدفعون الضرائب مع تراجع مستوى المعيشة والغضب من المخصصات والرواتب العالية جداً لمديري المصارف والمؤسسات المالية التي ينظر إليها على أنها هي المتسببة في الأزمات الاقتصادية.

وهكذا كانت الحركة ضد التقشف عنواناً يتضمن عناوين فرعية كثيرة فتم احتلال برج ملبانك التجاري، وفوجئت الشرطة بعشرات الآلاف الذين تحولوا من الاستماع لخطاب لاتحاد الطلبة إلى محاضرة بمقر حزب المحافظين وتدمير نوافذه.

كان واضحاً أن الفارق هذه المرة هو القدرة على تجميع المناصرين بسرعة مذهلة عن طريق الرسائل النصية والفيس بوك والتويتر وغيرها، ففي حين استغرق التحضير لمظاهرة اتحاد الطلبة في نوفمبر 2010 أكثر من شهرين فإن المظاهرة الثانية لم يستغرق التحضير لها عدة أيام. وعندما تجمع مئات الطلبة في جامعة كنغز في لندن واقترحوا القيام بتظاهرات احتجاجية في 24 نوفمبر فإن لجوءهم إلى إيجاد صفحة فيس بوك خاصة بالموضوع جلبت لهم في يومين أكثر من 25 ألف مناصر، فعمت الاحتجاجات البلاد كلها، كان نزولاً عفوياً للشارع. كذلك نجحت حركة «أنكت» في 14 ديسمبر باستخدام تويتر بصورة فعالة حيث تمكنت من إغلاق محلات فودافون في بريطانيا احتجاجاً على سياسات الشركة الضريبية. وكذلك دخلت على الخط حركة «المجهول» للهاكرز في إزعاج العديد من المواقع الخاصة بالشركات والحكومة التي كما تراها الحركة «تستمتع بفوائض عالية بينما يعاني الناس الأمرين»، تلك الحركة التي تصف نفسها بأنها «ليست إلا فكرة، وضميراً حياً...» فلا قيادة معروفة لها على الإطلاق، مجرد فكرة، روبن هود آخر، ولكن بتكنولوجيا متقدمة جداً. حتى الشرطة ذاتها كانت تعاني ففي حين احتل الطلبة مقر الحكومة البريطانية في 9 ديسمبر 2010 استخدموا نظام خرائط «غوغل» لتحديد مواقع الشرطة والوصول إلى مبتغاهم.

الكثير من المحتجين كانوا قد صوتوا للمرة الأولى في انتخابات 2010 وشعروا بخيبة أمل من زعيم الديمقراطيين الأحرار نيك كليغ الذي تناسى وعوده لهم بإيقاف سياسة التقشف وبالذات في زيادة المصاريف الدراسية. «كان أول مذاق للديمقراطية بالنسبة لهم مراً». هناك حالة من التهميش يعانيها الشباب، لا يشعرون بأن النظام السياسي يمثلهم. بل إنه ربما لم يحدث في تاريخ بريطانيا السياسي أن كانت زعامات الأحزاب الرئيسة سواء في الحكومة أو المعارضة كلها من شباب الساسة كديفيد كاميرون أو نيك كليغ أو حتى ايد ملباند في حزب العمال، إلا أن أولئك الشباب يأتون من أسر سياسية عريقة في العمل السياسي. حتى أن زعيم حزب العمال ملباند عندما حاول جذب الشباب لحزبه عن طريق جعل رسوم العضوية شبه مجانية لكل من هو دون الـ27 من العمر فشل فشلاً ذريعاً فلم يتجاوب معه إلا 400 شاب. ولذلك لا يبدو أن رئيس الوزراء البريطاني قد استوعب المشكلة حين قرر التعامل أمنياً مع المحتجين، كما طرحت فكرة الحد من استخدام الإنترنت، فهو يفكر بنفس نمط المؤسسة التقليدية السياسية بغض النظر عن «شبوبيته» أو كهولته، ولعله، لم يكن ليتوانى عن استخدام القوة المفرطة، لولا الضوابط المؤسسية القانونية، وقواعد الحريات العامة والإعلام الحر والمجتمع المدني المتأصلة.

فبالإضافة إلى حالة التهميش والفقر وتردي المستوى المعيشي وبالذات في بعض المناطق التي تعاني أيضا ضغطاً اجتماعياً ودرجة من التمييز العنصري، فإن مجمل المحتجين يرفضون البنية السياسية البريطانية التقليدية ويطالبون بتغييرها حيث لا يشعرون بأنها تمثلهم، وبالتالي ليس لديهم مبررات لضبط النفس. بالطبع وجد بعض المجرمين والبلطجية فرصة سانحة لهم لدخول الحلبة تحت مبررات عامة، إلا أن الصورة أكثر تعقيداً من مجرد عصابات إجرامية لابد من قمعها وملاحقتها أمنياً، وهي سياسة إن خففت من التوتر بعض الشيء فإنها لن تنهي المشكلة.

ألا يبدو هذا السيناريو مشابهاً لأماكن أخرى؟ ربما. لعل الفارق بين ما يحدث في منطقتنا وما يحدث هناك، أننا لم نسمع مسؤولاً واحداً يتحدث عن أن الاضطرابات وأعمال العنف والاحتجاجات ليست إلا أعمالاً مدفوعة من الخارج أو أن من قام بها بعض الأصوليين، بل، وبغض النظر عن المنطق الأمني، فسيتم معالجتها بالحوار، وإعادة النظر في السياسات المستفزة، والسعي إلى تقليل التهميش لشرائح المجتمع. الحل بمزيد من الديمقراطية ليس إلا.