ألملم شتات الحروف التي ضاعت على قارعة رمال تيماء... مدينة الأحزان... من يعود منها لا يعود كما كان... آليات عسكرية تدكّ الأزقة التي تفيض بؤساً.. وتطارد العزّل المسالمين الذين حملوا الأعلام وتجمعوا للتعبير عن آلامهم بشكل سلمي، وهو حق يكفله الدستور، لتفرقهم القوات الخاصة بالقنابل الدخانية والمسيلة للدموع، لنشهد ملاحقة الآليات والمقنعين خلف الشباب والأطفال بين البيوت والشوارع الداخلية. لتأتي تظاهرة يوم الجمعة الفائت التي تعاملت معها القيادات الأمنية بسياسة جديدة لتثبت أن المسألة لا تحتاج إلى هذه الانتهاكات والاعتقالات العشوائية، فقد مرت التظاهرة بسلام وانفض المتظاهرون بعد المهلة التي أُعطيت لهم.

Ad

في تلك الأزقة التي تسكنها الأرواح المُتعبة قصص تُبكي الحجر... جرح غائر يصبّ عليه عنصريونا الملحَ بعباراتهم كـ"عودوا إلى دياركم" و"أخرجوا وثائقكم الأصلية". هل سمع هؤلاء عن قصة بوعبدالعزيز الذي جمع المال ليعالج ابنه المريض بمرض عضال، وبعد أن وجد العلاج في مشفى في جدة، اصطدم بالإجراءات الجائرة للجنة السابقة التي منعته من استخراج الجواز، ليذبل ابنه الصغير أمام عينيه ويموت بين يديه؟... هل يخفي هذا الأب وثائقه الأصلية ويضحي بابنه من أجل الجنسية؟

هل سمعوا حكاية بوعبدالله عن ابنته التي كانت طفلة طبيعية، إلا أنها بسبب عيب خلقي بالقلب اضطرت للخضوع لعملية في الكويت بعد أن رُفِض طلب علاجها في الخارج، لتبدأ المعاناة بعد اكتشاف حدوث خطأ طبي أثناء العملية، فقد أصيبت ابنته بجلطة دماغية تسببت في شللها، لم يستطع بوعبدالله تكملة علاجها في التشيك بتبرعات المحسنين بسبب انتهاء صلاحية الجواز، لتتضاعف معاناته حين اكتشف أنه يعجز حتى عن توفير الرعاية الكافية في الكويت، لاسيما أن المعاقين البدون غير مشمولين في قانون المعاقين؟!

وهل سمعوا عن قصة عادل الذي عبر المحيطات لتحط رحاله عند شواطئ أستراليا؟ ناشد عادل السلطات الأسترالية منحه اللجوء الإنساني عبر فيديو مصور من معسكر الاحتجاز الذي قضى فيه أكثر من 16 شهراً، ترك عادل وطنه طلباً للعيش الكريم ليجد مأساته تتكرر مرة أخرى، يقول "لدي أحلام قد تبدو بسيطة بالنسبة لكم، ولكنها كل ما أطمح إليه، أريد أن أعمل وأن أبني أسرة"، ها هو عادل يرحل كما طلبتم... وها نحن نترك أبناءنا للمجهول والضياع دون وخزة ضمير!

هل سمعوا عن ضحايا المكاتب التجارية التي ألصقت إعلانات بيع الجوازات على جدران اللجنة التنفيذية أمام أعين أجهزة الأمن، فدفعوا لها المبالغ الطائلة ليصبحوا مواطنين لبلدان لم يعرفوا مكانها على الخريطة، ليتخلصوا من العذاب والضغوط، وليكتشفوا في ما بعد أنها جوازات مزورة! فأضحوا معلقين بين السماء والأرض؟ هل يُعقَل أن يخفي هؤلاء جوازاتهم الأصلية؟

يا إلهي... كم نحن مغيبون... كم مُزيَّف وعينا... كم نجهل بجهلنا... للتاريخ قصة طويلة تسكن الظلمة أكثر من خمسين سنة، يختزلها العنصريون بكلمتين: "مزورون ومتسللون". بدأت الحكاية حين استثنت الدولة أبناء البادية من قانون الإقامة فأقاموا فيها بشكل قانوني، ليسموا اليوم "مقيمين بصورة غير قانونية". ما يطالب به البدون هو محاكمتهم قضائياً بدلاً من سحب آلاف البطاقات الأمنية وتجريدهم من الحقوق الإنسانية، وبدلاً من حرمانهم حقَ التقاضي لإثبات أحقيتهم في المواطنة، وهو انتهاك للدستور الذي يقرّ بأن "حق التقاضي مكفول للناس"، ويظل البدون مداناً حتى تثبت براءته.

وتظل شعارات الحرية والعدالة التي تغنّت بها جماعة "إلا الدستور" قبل أيام في ساحة قصر العدل شعارات خاوية ومفلسة، يتحملون وغيرهم ممن يدّعون "العمل الوطني" مسؤولية تاريخية لعدم نصرة مَن فاض بهم القهر والحرمان.