لم أدرك نعمة التخيل وإفلات الخيال إلى أقصى مداركه إلا بعدما بدأت في ممارسة الكتابة الروائية التي جمحت بالتخّيل إلى حدود لم أكن أدرك أنني أملكها، وأنها تسكنني إلى هذا الحد غير القابل وغير الخاضع لأي شكل من أشكال القمع والنهر والقيود.

Ad

الرواية ركبت حصاناً خيالياً وانفلتت به إلى مطارح حرة ومنفلتة ومتحررة من كل السجون والحبوس التي تعطل عملية الإبداع الحر التي يحاول الكثير الحد من جموحها وقمعها ضمن أقفاص خلقتها مخيلة محدودة لم تعرف قيمة وأهمية الخيال الجامح الحر، ومدى دوره الأساسي في عملية الخلق الإبداعي.

وأتذكر من طفولتي أول درس لقمع الخيال أعطتني إياه مدرسة العربي حين حاسبتني على موضوع إنشاء يدور حول رحلة في الطبيعة، ولم يعجبها الخيال الذي سرحت به، واستكثرت عليّ أن يكون في صحرائي أشجار للبرتقال، فكتبت تعليقاً على موضوعي، وهل هناك أشجار للبرتقال في بلدك؟

هذه أول عملية قمع للخيال تأتي من مدرسة مهمتها تنمية عملية التخيل والابتكار، لكنها من شدة التصاقها في الواقع ومطابقتها له، لم تقبل خيال طفلة، حتى وإن كان في موضوع إنشاء بسيط لن يضار به أحد.

واستمرت هذه المحاسبة إلى يومنا هذا، وبقي لقب فوزية الخيالية مرافقاً دائماً ونعتاً ملتصقاً بي، حتى ظننت أنه عيب أو خلل ينتقص من شخصيتي ومعايرة لي تضعني في خانة من لا يُؤخذ بكلامه، فهو منقوص ونوع من الخيال.

ولم أدرك قيمة هذا الخيال إلا بعد نضجي الأدبي وتفجر موهبتي الفنية، حينئذ أدركت قيمة هذا التخيّل وأهميته في العملية الإبداعية الفنية، ولولاه لما كان هناك فن وأدب وإبداع وحضارة.

والآن حينما أجد من يحاسب الرواية التي أكتبها على عملية التخيّل في السرد الروائي أتذكر تلك المدرسة المسكينة المحرومة من نعمة الخيال، والمقيدة بحدود الواقع الفقير الخالي من تخيّل مبدع.

الرواية ليست ملزمة بالتطابق مع الواقع والتماثل به، الرواية إبداع متخيل له مساراته التي لا تخضع إلا لقيمتها ولميزانها الفني والجمالي، فهي ليست تأريخاً وتدويناً لزمان ومكان يتماثل مع واقعه، ومن يحاسب الكاتب على ذلك فهو ناقص في معلوماته الفنية والأدبية والجمالية، بالإضافة إلى نقص وعيه في مفهوم التخيّل الإبداعي.

الرواية غير ملزمة بالتوثيق والتطابق في المعلومات الاجتماعية مثل التطابق للمكان والسلوك الاجتماعي والأخلاقي والتاريخي والسياسي... إلخ.

الرواية تُبنى على مستويات من المعنى ليس من السهل على القارئ العادي أن يدركها بمجملها، لذا تراه يأخذ المعنى السطحي أو الأسهل على فهمه وإدراكه، وبالتالي يقيس العمل كله على هذا المعيار المتوافر لديه، بينما يكون العمل بعيداً تماماً عما وصل إليه أو أنه فقط تلمس المستوى الأبسط منه.

الكاتب يستغل كل ما في قدراته التخيلية لإيصال فكرة معينة أو موضوع يريد إيصاله وطرحه بالشكل وبذات المعنى الذي يراه ويستشف كينونته وجوهره، لذا نجده يستغل كل طاقات الخيال ليبني عليها ما يريد طرحه وإيصاله إلى الغير، وهكذا تُبنى الرواية فهي في أساسها فكرة تمثل رؤية للكاتب ينبغي أن يخلق لها كل الوسائل الممكنة ليوصل بها ما يراه وما يدركه ويشعر به إلى القارئ.

الكلام السابق لا يشمل كل الروائيين، فهناك من يكتب الرواية الواقعية المتطابقة تماماً مع أشخاصها ومع أمكنة واقعهم وأحداث حياتهم، وهناك كتاب يعيشون واقع رواياتهم بتجربة حقيقية كأن يدخل السجن أو يعيش حياة الأرصفة والتسول، وأن يمر بظروف الحياة التي يكتب عنها كما هي في الواقع، وهناك أيضاً من يتلقط روايته من أفواه أصحابها ويكتبها كما هي أو يضيف عليها وجهة نظر معينة يراها من زاويته، وهناك أيضاً من يتلقطها من الكتب أو التراث أو التاريخ وغيرها من الكتب المتوافرة.

لكن كتاباتي الروائية وحتى المسرحية والشعرية كلها مبنية على التخيّل الذاتي المبني على فكرة يراد طرحها وإخراجها برؤية وبتحليل خاص بي، لذا أخلق لها كل الممكنات التي تأتي بها وبما أريد إيصاله وإخراجه وطرحه.

فشكراً لنعمة الخيال التي منحتني مقدرة الكتابة.