موضوع الجمال في الفن واحد من أكثر الموضوعات التباساً، بالنسبة لي على أقل تقدير. فما المقصود من القول إن هذه القصيدة جميلة، وهذه اللوحة جميلة، ما دام عنصر التشويه والإرباك من عناصر الصنعة الفنية التي لا تتعارض مع معيار الجمال؟ هل ينفرد الشعر، أو أي نتاج يعتمد الكلمات، بمفهوم للجمال لا يصلح للفنون البصرية، والفنون الموسيقية، بحيث يصح معه اجتهادي الذي أرى فيه أن الجمال في النص كامن في جمال المعنى وهو يتشكل على هيئة كلمات؟ لأن الشكل الجميل لفظياً، والذي يعبر عن معنى سطحي ورخيص لا يعدو أن يكون صنعة 'تزويقية'. والدليل على ذلك أن 'المدرسة الجمالية' التي ظهرت في انكلترا، أواخر القرن التاسع عشر، لم تعتمد في حقل الشعر على الجمال اللفظي أو الشكلي. وأوسكار الذي كان أحد أعلامها أفشى 'مفاهيمه' عن استثارة الإحساس بالجمال، في لغته الشعرية والنثرية. أو جعل من عناصر الجمال الحي، المعيش، عمادَ موقفه الفلسفي، وعلاقته العملية بالحياة. على خلاف فناني هذه المدرسة، من رسامين، ومصممي ديكور، وبيوت، وورق حيطان، في هذه المرحلة.

Ad

المعرض الموسع في متحف 'فكتوريا وألبيرت'، والذي تحت عنوان 'عبادة الجمال' يلقي الكثير من الضوء على هذه المسألة. لأنه يُقصر 'الجمال' على مفهوم بعينه، عند حركة فنية بعينها، وفي مرحلة بعينها. وليس الجمال المثير للالتباس الذي تحدثت عنه.

'الحركة الجمالية' التي امتدت في انكلترا بين 1860 و1900 (عام وفاة أوسكار وايلد بائساً، مهجوراً في باريس!) كانت، مثل كل تيار فني أو فكري، وليدة عوامل فاعلة تاريخياً. هذه العوامل تحددت بالتقدم الذي حققته الإنجازات العلمية والتقنية، والفورة الصناعية، وهيمنة سوق المال. أمور تنطوي على قبح ومادية مبتذلة أفزعت مبدعي الطبقة الوسطى، وأحوجتهم إلى متنفس جديد. ولا مانع من أن يكون 'مهرباً' من هذه اللوثة التي أحاطت حياتهم اليومية الرائقة، المشبعة بالخيال. ولقد وجدوا في دعاوى الشاعر الفرنسي بودلير في تكريم الدعارة والتعامل مع المخدرات، وفي الدعوة الفرنسية 'الفن للفن'، بالاضافة إلى اللهب الذي أشعلته ترجمة فيتزجرالد الرائعة لرباعيات الخيام (1859)، جذراً مغذياً لنزعة حسية، شهوانية تمردية الطابع ظهرت، أول ما ظهرت، شعرياً في صوت الشاعر الانكليزي سوينبيرن (1839-1909)، وخاصة في مجموعته 'أغنيات' (1866) التي أثارت في حينها ضجة كبيرة بفعل ما تنطوي عليه من حسية مثيرة، سميت في حينها بـ'المدرسة الجسدية'. الشاعر القرين الآخر روزيتّي (1828-1882)، الذي لم يكن شاعراً كبيراً فحسب، بل رساماً كبيراً أيضاً.

اللوحة استلمت القياد باتجاه الجمال المرئي، المتعين بالمرأة بالضرورة. ومن هنا ارتباط الجمال بالنزعة الحسية. وضح هذا في أعمال روزّيتي ومعظم رسامي حركة 'ما قبل الروفائيلية' البارزين: ليتون، واتس، ألبيرت مور، وبيرت جونز. على أن الرسام ويستلر (1834-1903)، الذي أنكر محاكاة الطبيعة، واعتبر اللوحة محض شكلٍ ولون، أوصل اللوحة بالفن الموسيقي. ولوحته 'السيمفونية البيضاء'، صورة لامرأة بثياب طويلة بيضاء، محاولة تقرّب من مقولة الناقد ولتر باتر (1839-1894) الشهيرة، وهو المؤسس الحقيقي للحركة الجمالية، التي يقول فيها 'إن كل الفنون تطمح أن تكون موسيقى'.

أبناء جيل هذه المرحلة المشبعون بالتوق إلى الجمال، لم يُفردوا الجمال الحسي داخل إطار اللوحة أو في قصيدة، بل هم شرّعوا له تصاميم عمارتهم، وأثاثهم، وورق حيطانهم، وأزيائهم أيضاً. ولعل الحكاية التي تروى عن أوسكار وايلد، وهو على سرير موته في غرفة فندقه الباريسي الرثة، انه قال، وهو يتأمل قباحة ورق الحيطان المتعفن بفعل الرطوبة حوله: 'واحد منا يجب أن يغادر الحياة'، هو الذي يمثل نزعة الجمال أو هذا القبح الذي يحيطه. ولقد غادر هو، وبقي القبح سيد المكان والزمان.