المفتون
عرفت الأديب فؤاد قنديل من خلال مقالاته التي ينشرها في الصحف ويرسل بعضا منها على "اميلي" في الإنترنت، ومن خلال هذه المقالات شعرت بروحه الوطنية وشجاعته في قول كلمة الحق من دون خوف من أي سلطة كانت. لكني لأول مرة أتعرف على شخصية الإنسان الكامن فيه، وذلك من خلال قراءتي لسيرته الذاتية المكتوبة في ثلاثة أجزاء، الجزء الأول جاء تحت اسم المفتون، والجزء الثاني كان اسمه نساء وألغام، والجزء الثالث لم أقرأه ولا أعرف إن كان من ضمن المجموعة التي أرسلها إليّ أم لا.
في الجزء الأول من "المفتون" يتناول فيه سيرة الطفولة والصبا وبداية استيقاظ الوعي، وذلك حين أطلق الرصاص على الرئيس جمال عبدالناصر في عام 1954 والتي سببت خبطة على وعيه أدت إلى استيقاظه وانتباهه لما يجري في الحياة السياسية والاجتماعية وحبه للرئيس جمال عبدالناصر. ومن خلال هذه السيرة تتكشف للقارئ حياة عصر بأكمله وبكل أحداثه، فسيرة إنسان قادرة على أن تكشف تاريخا بكل أبعاده وبكل انعكاساته على جميع نواح الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية بكل تياراتها وكل تغيراتها. وفي هذه السيرة يتبين لنا مقدار حبه للرئيس عبدالناصر ورؤيته لسياسته وحلمه الكبير بتوحيد الأمة العربية في وطن عربي واحد. الجزء الخاص بالرئيس جمال عبدالناصر كان من أعمق أجزاء الكتاب، والتحليل الذي ورد في الكتاب كان في شكل عاطفي لكنه محايد، والمشهد الذي صور فيه موت الرئيس عبدالناصر كان مؤثرا جدا يضع القارئ في وسط الحدث الكبير بالصورة وبكلمات تهز القلب. ولأول مرة أنتبه إلى أن وفاة الرئيس عبدالناصر حدثت في ليلة الإسراء والمعراج، مما يضفي على وفاته رمزية الحدث العظيم. كتابة نقلتني إلى زمن العصر الجميل، ففي كتابته نكهة ذاك الوقت الذي كنت أقرأ فيه لأسماء كتاب كبار كنت مفتونة بكتاباتهم، وفؤاد قنديل واحد من ذاك العصر، وكتابته تنتمي إليهم فهي سلسة وعفوية، صادقة وشجاعة، كشفت عن عمق ثقافته وتفسيراته وتحليلاته وتجلياته في بساطة محببة، كما أنها كشفت عن أجواء الأدباء وأكاذيبهم وتشنيعاتهم وإشاعاتهم. كذلك كشفت عن خطط الرجال في الحب وطرقهم في الإيقاع بالفريسة والوصول إلى قلب المرأة المشتهاة. كتابة حملت ذكريات كثيرة محملة بحوارات مكتوبة بخفة دم مصرية، لا أدري كيف استطاعت ذاكرة فؤاد قنديل أن تحتفظ بها حية طازجة طوال كل هذا الزمن. أما الجزء الثاني المسمى بـ"نساء وألغام" فيتناول فيه مرحلة الشباب وعنفوانها واندفاعاتها في فض وخوض كل أسرار الحياة المغلقة، فمرحلة السبعينيات من القرن الماضي حفلت بأحداث وبتغيرات كبيرة مهمة غيّرت الواقع المصري كله، مثل سياسة الانفتاح وتوقيع معاهدة كامب ديفيد، والعبور ومقتل السادات. أحداث عظيمة عايشها الكاتب وكتبها بصدق وبتحليل عميق محمل برؤية مثقف عاصر هذه المرحلة الخطيرة التي تمت فيها هذه التحولات التي قادت إلى كل هذه النتائج التي أتت من بعدها. سيرة ممتعة وصادقة وصادمة جاءت في كتابة نُحتت في بساطة وعلى السليقة مع التمكن من جمالية اللغة وانسياب السرد بعفوية نقلت الوقائع بتشويق وبتقطيع المشاهد حتى تتلاءم وتتوافق مع الشكل الروائي. وقد أحببت علاقة الكاتب بأسرته وهذا الترابط العاطفي البعيد عن الفردية العالية الموجودة الآن في حياة الأسر. كذلك علاقته الخاصة بالله وتحليله لمفهوم هذه العلاقة، كان الشرح والتعليل في منتهى الصدق والفهم العميق لها. فؤاد قنديل عاش حياته وهو يتأمل كل تفاصيلها، وبالتالي حياة فرد تعكس واقع مجتمع بكامله، فالفرد ليس إلا عينة من نسيج كبير. وفي النهاية هذه سيرة للإنسان المصري كُتبت بعدالة في التحليل والتفكير، وإن كانت هناك أحداث فيها لا تُصدق، تتراوح ما بين خيال الكاتب وواقعها مثل إضفاء حالة من الأسطورية على الحدث مثل هجوم الثعابين وفيضان الأمطار وغيرها.