«الثقافة الأدبية» العراقية تتناضح، بصورة لافتة للنظر، مع إطارها السياسي. ولأن طبيعتها التي غلبت عليها أيديولوجيةٌ، فهي أصلب عوداً وعناداً من محيطها السياسي في هذا الأمر. أرفعُ درجات الاحتجاج التي صدرت عنها، في زمن العارفيْن في الستينيات، كان بسبب استراحة الدولة من قبضة الأيديولوجيا. كان «مثقف الأدب» بالغ الانكسار، بالغ الإحباط، بالغ النزعة الهجائية بسبب ذلك. وحين هيمن البعث ثانية استردَّ «مثقف الأدب» معنوياته العالية، متوافقاً مع النظام، أو معارضاً له.

Ad

صعودُ صدام حسين إلى السلطة كان قفزة لم يألفها العراق من قبل، ولا «مثقف الأدب». لقد حقق معادلةً غريبة تكون استطالةُ وجوده فيها تقزيماً لكل وجود سواه. «مثقف الأدب» أول المرشحين لهذا التقزيم. ولقد تقزّم بطواعية مدهشة. كتب الشعر والأغنية والرواية والمسرحية وسيناريو الأفلام والمقالة الصحافية عن القائد القادم من بحر الأساطير. كتبها باندفاعة بدت وكأنها إملاءٌ من قوى إلهام خارج قدراته. وكان الرضا الذي أحاط به النفس لا يُخفي احتقاناً يفيض منه، وهو ينظر بارتياب إلى من يحيط به.

أجيال «مثقفي الأدب» التي وُلدتْ، ونشأتْ تحت ظل الدكتاتور، جردتها حضانةُ الرعب من أية قدرة على رؤية النفس. إن تقزّمها الذي لا يخفى عن رقابتها، منحها فرصةَ أن تكون طيّعةً كقصَبة، وملونةً كحرباء. خرجت الأيديولوجيا هذه المرة بصبغة «ثقافةٍ أدبية» خالصة لوجه الإبداع الخيالي. أمر لا شك سيؤنس العينَ الفاحصة، لنظام لا يعرف من الأيديولوجيا إلا سحنتها السياسية.

«مثقفُ الأدب» هذا، صافحَ يدَ الدكتاتور الدامية بغير قناعة، ولكن برضا. وهو لمْ يهجر الدكتاتور إلى المنفى، ويعارضْه، ويتجرأ على شتمه، إلا بعد أن خسر هذا كلَّ قواه، وكلَّ أمواله، وتقزّم هو الآخر بدوره على يد قوى أعتى، وأكثر جبروتاً. مرحلةٌ بقي فيها «مثقف الأدب» على ما رُبّي عليه في حضانة الرعب: منقاداً إلى أهوائه، وتلونِ حربائه، ولكن بلا خوف، أو رقابة هذه المرة. لقد انتقل إلى أفق حضارة، كانت قبل فترة من الزمن عدوةً بامتياز. وهي اليوم حاضنة كريمة، لا تتردد حتى في تأليبه على إدانتها بحرارة، لكي يُرضي عقلَه المُعتقل، ويبدو بسحنة تراجيدية. وهل أيسر من إدانة الغرب، وتعداد مثالبه؟

هذه صورة تقريبية لـ»مثقف الأدب» العراقي، منذ ستينيات القرن الماضي حتى اليوم. شذَّ عن هذه الصورة مثقفو أدب على قدر من البصيرة، والعقل التنويري. ونواةُ هذا الوعي لا شك كامنةٌ في قدرة هؤلاء على فهم واقع الأفكار، وواقع النفس البشرية عبر مواجهتهم النقدية لأنفسهم. صراعُهم مع أنفسهم كان مفتاحاً لفهم صراعهم مع التاريخ. إذا عرف واحدهم أنه ولد ونشأ تحت ظل ثقافة قمعية، أو زائفة فلابد من أن تنعكس على تكوينه العقلي والروحي. الارتياب في النفس هو أولُ خيوط التنوير. وهو أولُ قاعدة لاستيعاب التكوين الإنساني الملتبس، داخل دوامة التاريخ الكاسرة. ولقد عرضتُ لهذا في أكثر من كتاب، وأكثر من مقالة. وكنتُ دائمَ التطلع إلى رفقة طريق في هذه المسيرة الحزينة.

محمد غازي الأخرس أحد هؤلاء بالتأكيد. وشاهدي على ذلك كتابُه، الذي صدر مؤخراً عن دار التنوير بعنوان «خريف المثقف في العراق». وإذا شاءت الأفكار أن تتفاوت قليلاً بيننا وتختلف، فإن العنصر العقلي، التنويري هو المحور الموحّد. إن الأجيالَ التي «يتأملها» الكاتب، ببصيرة لا تخلو من عطف، وبلا ضغينة، ممن يسميهم بـ»المثقفين»، هم «مثقفو الأدب» إن شاء الدقة. أبطال المعترك الأيديولوجي الذي غذّت دمويةُ الكلمات فيه دمويةَ السلاح، منذ المراحل الانقلابية المبكرة من تاريخ العراق الحزين. «خريفُ» هذا المثقف قد يوحي، من عنوان الأخرس، بمرحلة ابتداء لشتاء مُقبل. على أني أراها مرحلة شتاء طويل لربيع مُقبل. العالم العربي يتغير من الجذور. العراق سيتأخر عن ركبهم، هو الذي بدأ مرحلة التغيير، ولكنه سيبدأ ربيعه حين تبدأ تخمةُ المتحرّق للسلطة تتحول إلى سموم. وحين يعي الناس أنهم ليسوا بحاجة إلى وسيط بينهم وبين ربهم. تغيرُ الناس يعني تغيرَ «مثقف الأدب». وليس العكس، كما يحاول «مثقفُ الأدب» أن يوهمَ النفسَ والناس.