حين تضيع الفرصة الذهبية
قرأت في هذا الصيف عدة روايات ألفها شباب في أول إنتاج روائي لهم، ووجدت بعضا منها جيدا جدا كبداية، والبعض الآخر لا بأس فيه، وأيضا كبداية في خطوات الدرب الطويل في العالم الروائي.لاحظت وبشكل عام أن هؤلاء الشباب تزدحم في رؤوسهم أفكار عديدة وأساليب متعددة، سواء التقطوها من روايات قرأوها لكتاب عالميين أو أنها جاءتهم من تأثير عالم السينما، لكنهم لم ينتبهوا إلى الشروط الأساسية التي يفرضها أو يشترطها العمل الإبداعي بحد ذاته، الذي يختلف من عمل إلى آخر، مما يغير ويبدل من أسلوب وشكل الكتابة الروائية في كل مرة تُكتب فيها رواية جديدة وهي التي تختار وتحدد نوع وشكل أساسيات الاشتغال عليها، لكن أن تجمع كل أشكال الكتابة الروائية وأساليبها وتفرض على عمل روائي بشروطها الجاهزة، أمر يضيع الرواية أكثر مما يخدمها.
كما أن كثرة الأفكار والأحداث والمواضيع المتعددة التي تُحشر في سياق النص الروائي تصبح فائضة عن حاجته، وليس من ضرورياته، لكن الكاتب لديه أفكار ومواضيع كثيرة يريد طرحها وحشرها في رواية واحدة مما يخلق زحمة في مواضيع أغلبها ليس في صالح الرواية، مما يؤدي إلى ترهل النص وتشتته.الكاتب الشاب يريد أن يعمل كل شيء، وأن يقول كل ما يعرفه من دون حساب متطلبات وشروط العمل الفني والجمالي المطلوب.فمثلا البعض منهم يشتغل على رواية التفاصيل فيملأها بكل تفصيلة صغيرة أو كبيرة، مهمة أو هامشية، تُفيد النص أو لا تفيده.والبعض الآخر يشتغل على رواية الأحداث، وأيضا يزحمها بأحداث عديدة، كل حدث منها تُبنى عليه رواية، مما يؤدي إلى ازدحام الحكايات والشخصيات والأزمنة في رواية فائضة عن الحاجة. والصحيح أن رواية التفاصيل أحيانا لا تحتوي على أحداث أو حكايات كثيرة، لكنها تشتغل على تفاصيل ململمة تُلقي ضوءا على حكاية أو موضوع ما توسع من شبكة العلاقات فيه المراد تسليط الضوء عليها، وكمثال على ذلك رواية روائح ماري كلير، تأليف الحبيب السالمي، ورواية غرام برجماتي لعالية ممدوح، ورواية قميص نوم وردي لنورا أمين، كل هذه الروايات الثلاث تناولت موضوع علاقة حب من وجهة نظر صاحبها، وفتحت في تفاصيلها بشكل خاص جدا، ومن الممكن أن تُكتب المئات من حكايات الحب في تفاصيل جديدة مختلفة ممتعة ومتفردة بذاتها.وهناك رواية الأحداث الكبيرة مثل روايات نجيب محفوظ وخيري شلبي وأسماء كثيرة غيرهم تناولت حكايات لشخصيات متعددة بأزمنة متغيرة وقصص متشابكة فيها.وهناك الرواية المركبة من التفاصيل وشبكة الأحداث والعلاقات والأزمنة المغزولة كلها في عمل معقد كبير، مثل روايات معظم الكتاب العالميين الحائزين جائزة نوبل.لهذا نجد أن الزيادة مثل النقصان، لذا يجب أن يُضبط ميزان متطلبات العمل الفني بدقة حتى تنضبط معايير الكتابة الروائية، وتأتي بلا فائض يشتتها ويترهل النص ويفيض بما لا يفيد ولا يثري العمل بل يزيد من فوضاه وارتخاء نسيجه ومن انتقاص متعته.ومن الروايات التي انتقصت الفوضى من قيمتها الفنية، رواية «طلعة البدن» للكاتب الشاب مسعد أبو فجر، فهي برأيي رواية مهمة لأنها تتحدث عن بدو سينا منذ عهد الأتراك الذي رُسمت فيه الحدود وقسمت فيه العائلة الواحدة إلى جزء مصري والآخر فلسطيني، ومن بعدهم جاء دور الانكليز والإسرائيليين والمصريين، حتى تعاقبت عليهم التقسيمات والقرارات والقوانين التي تضعهم داخل الحدود الفلسطينية أو المصرية، مما وضع العائلة الواحدة في دولتين.وبقيت حدود الترسيم هي مشكلتهم الدائمة في تحديد الهوية والانتماء للهوية، هذا غير اتهام المصريين لهم بأنهم مزدوجو الهوية وإنهم يكرهون المصريين، وهم ليسوا إلا تجار مخدرات خائنين.الرواية فيها تفاصيل كثيرة لحياة البدوي ربيع وأهله وتاريخ طويل لحياة بدو هذه المنطقة الذي لم يكتب عنه من قبل، هذه الرواية منحت كاتبها فرصة ذهبية لأنها كشفت عن واقع مثير ومهم، لكن الفوضى غير الخلاقة انتقصت من قيمتها ومن اكتمالها الفني الذي كان من الممكن أن يكون تحفة أدبية فنية لولا أنها التجربة الأولى للكاتب فولدت من دون لجام ولم تُضبط أسسها الفنية والتقنية بشكل خلاق فسادتها الفوضى غير الخلاقة التي أضاعت الفرصة الذهبية.