من سُبلِ نجاة الأنظمة من نيران الثورة
إن القراءة النصية الظلامية؛ أي اللاعقلانية للنص، تخلق حاجزاً نفسياً بين الوعي الإسلامي والحداثة، بل تُحوّل ضحاياها إلى فصاميين وعظاميين هُذاة، لا يرون من حيث يتلفتون إلا «اليهود والنصارى وعملاءهم العلمانيين» المتآمرين على الأمة الإسلامية التي يحاصرونها من الداخل والخارج.
- 1 -عددنا في المقال السابق، العوامل التي قد تساعد على تحقيق الحداثة (سفينة نوح) العصرية للأنظمة والشعوب العربية، وتُجنبها عنف الثورة الشعبية، وهذه عوامل أخرى يمكن أن تساعد على تجنب الغضب الشعبي العارم المتوقع:1- لقد أدى العجز السابق للنخب "الحديثة" الفاقدة للشرعية والشجاعة السياسية إلى جعل الإسلاميين هم أداة التاريخ غير الواعية لقيادة مجتمعاتهم، وتبرير حججهم وتزكية نموذجهم المجتمعي العتيق، مما أدى إلى ولادة الوضع الفصامي السائد، وهو مجتمعات مشلولة وحكومات متسلطة وعاجزة عن التحديث، ومعارضة دينية تجد شعاراتها في الخلاص صدى لدى أوسع الجماهير، لأنها تحمّل الأنظمة الحديثة والعَلمانية مسؤولية المآسي التي يكابدها يومياً المواطن.2- لجوء الأنظمة "العلمانية" الفاقدة للشرعية الديمقراطية وشرعية الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية إلى تكتيك انتحاري يتمثل بتطبيق مطالب الإسلاميين أملاً في سحب البساط من تحت أقدامهم، فكانت النتائج كارثية. فما تمَّ هو انتهاك وقح لحقوق الإنسان بمفهوم الحد الأدنى؛ أي ضمان الحق في السلامة الجسدية والحياة، و"أسلمة" زاحفة للحياة الثقافية والاجتماعية، وإحجام عن تحقيق الإصلاحات الضرورية، وفي مقدمتها الفصل بين الديني والسياسي السائد في العالم العربي، لأنه شرط للمواطنة التي بين المؤمن والمواطن، وإقرار المساواة بين الجنسين، لوضع حد لإقصاء غير المسلم والمرأة من حقوق المواطنة؛ أي حرمانها من الاضطلاع بالأدوار السياسية والاجتماعية التي تمكنها منها صناديق الاقتراع، أو الكفاءة العلمية.3- عدم توافر شرط الأحزاب الحديثة إلا نادراً في أحزاب الفضاء العربي المعترف بها، وذلك لحرمانها عملياً من تحقيق هدف كل حزب، وهو الوصول إلى الحكم، أما في جُلِّ البلدان فهي إما ممنوعة، أو هناك حزب واحد ليس في الواقع إلا واجهة لحكم المخابرات العسكرية.4- وجود أزمة الشرعية السياسية التي تتجلى في واقع أن الهيئات الوسطية القروسطية مثل القبيلة، الطوائف، الحرفية، الطرق الصوفية، الأعيان، قد تفككت. وبدائلها الحديثة كالأحزاب، النقابات والجمعيات، ممنوعة أو مهمّشة، وفي كل الأحوال، لا أمل لها في الوصول إلى الحكم. 5- وجود عائق سياسي أول لظهور التعددية الحزبية، وهو الخوف المميت من الديمقراطية؛ أي من احتمال تداول السلطة. هذا الخوف المرضي، كثيراً ما دفع النخبة الحاكمة إلى قرارات انتحارية كمساعدة الحركات الإسلامية للوصول إلى السلطة، خوفاً من فوز الديمقراطيين كما حصل في الجزائر مثلاً في 1988 في عهد الرئيس بن جديد، عندما ساعدت السلطة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" لقطع الطريق على الخطر الديمقراطي.6- إن السياسة مثل التاريخ، لا تعترف بحرق المراحل، بل فقط بالتطور التاريخي والتراكمي، ونقطة البداية في عملية توطين التعددية الحزبية للوصول إلى الحداثة السياسية إدخالها، حيث مازالت تطرق الأبواب، وتوسيعها، وتعميقها حيث وجدت، وذلك بالاعتراف حصراً بالتشكيلات الديمقراطية. ومعيار ديمقراطيتها هو اعترافها الصريح بالانتخابات كوسيلة وحيدة للتداول على الحكم استبعاداً لثالوث "الانتخاب والانقلاب والحرب الشعبية" الذي تتبناه بعض الحركات الإسلامية خصوصاً المغاربية، كما قال المفكر التونسي العفيف الأخضر ("التعددية الحزبية طريقنا إلى الحداثة السياسية"، "الحياة"، 14/7/2001).7- أصبحت البلدان العربية مسرحاً للصراع بين اتجاهين متعاكسين: اتجاه إلى التفكك، يصارع اتجاهاً مضاداً إلى التحديث في بعض هذه البلدان، واتجاه إلى الحداثة، يقابله اتجاه مضاد إلى التفكك في بعضها الآخر.8- عجز النخب الفكرية والسياسية البنيوي منذ قرنين من الانخراط في مغامرة الحداثة الأوروبية المنشأ، والتي لا حداثة سواها، وكان السبب في هذا، أن التراث الذي استُبطن كعائق ذهني شلَّ فاهمة النخبة التي واجهت الحداثة كخطر على الهوية لا كفرصة لمعاصرة عصرها. فرهاب الحداثة هو الذي قضى على مجتمعاتنا، بأن تظل بدرجات متفاوتة تقليدية؛ أي يحكم فيها الأموات من وراء قبورهم حياة الأحياء على حد تعريف "أوجست كونت" للمجتمعات التقليدية.9- إن أحزاب الفضاء العربي المعترف بها لا يتوافر فيها – إلا نادراً – شرط الأحزاب الحديثة لحرمانها عملياً من الوصول إلى الحكم، وهو هدف كل حزب، أما في جلّ البلدان العربية فهي إما ممنوعة وإما هناك حزب واحد حاكم ليس في الواقع إلا واجهة لحكم المخابرات العسكرية.10- عاملان قويان يناضلان ضد دخول المجتمعات العربية إلى الحداثة: قادة الإسلام الظلامي، والتعليم الديني الظلامي. قادة الإسلام الظلامي، باعتبارهم يمثلون الاتجاه المضاد للاتجاه التاريخي إلى الحداثة، يرفضون العقلانية الدينية التي تعقلن النص الديني بالتأويل، باسم القراءة الحرفية للنص التي تبناها في تاريخ الإسلام الخوارج والحنابلة والسلفيون المعاصرون. يقول راشد الغنوشي: "موقف المسلم إزاء النص ليس المناقشة؛ أي موقف الند والمحاور والمجادل، إنما يكون موقفه: سمعنا وأطعنا". فدور العقل اكتشاف معنى النص، والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي متأثر بهذا المنزع "السلفي" الإسلامي الذي يؤكد أهمية النص، ومنع التلاعب فيه، أو التحكم به، من خلال التأويل العقلي.11- وأخيراً، إن القراءة النصية الظلامية؛ أي اللاعقلانية للنص، تخلق حاجزاً نفسياً بين الوعي الإسلامي والحداثة، بل تُحوّل ضحاياها إلى فصاميين وعظاميين هُذاة، لا يرون من حيث يتلفتون إلا "اليهود والنصارى وعملاءهم العلمانيين" المتآمرين على الأمة الإسلامية التي يحاصرونها من الداخل والخارج. وطبّق هذه الرؤيا "الإخوان المسلمون" الذين غلغلوها منذ 1928 في الإعلام والتعليم. يقول خريج مدرستهم الدينية، ومدرستهم الحزبية أيمن الظواهري: "حينئذ [عندما يبدأ الجهاد ضد أميركا] سيقع الزلزال الذي يرتجف الغرب منه، ألا وهو قيام دولة الخلافة الإسلامية في مصر، فتصبح مصر قادرة على قيادة العالم الإسلامي في جهاده ضد الغرب. ويلتف حولها مسلمو العالم كله، وعندئذ سيدور التاريخ- إن شاء الله- في الاتجاه المعاكس ضد إمبراطورية أميركا وحكومة اليهود العالمية" ("فرسان تحت راية النبي"، ص 46).* كاتب أردني