الليبراليون والتيار الديني.. معاً على الطريق!
سنترك للتاريخ، ومؤرخي الأفكار، المجال لما سيقال من الشيء الكثير والأثر الكبير لما أُطلق عليه "الربيع العربي"، وما نتج عنه من ثورات فاتحة في تونس، ومصر، وليبيا، ومن ثورات زاحفة في اليمن، والبحرين، وسورية، وتحركاً ملكياً هادئاً في المغرب.ولكن علينا أن نذكر هنا، حقيقة ظاهرة للعيان، وسريعة البيان، وهي أن النتائج الأولية للربيع العربي، التي تمثلت بالانتخابات التونسية، والمغربية، والمصرية الأخيرة، أظهرت تآلفاً سياسياً، وتضامناً فكرياً، وطريقاً واحداً لكل من التيارين المتنافسين (الليبراليون والتيار الديني) في كل من تونس، والمغرب، ومصر.
فما مظاهر هذا التآلف السياسي، والتضامن الفكري، والطريق الواحد، التي سلكها الليبراليون الآن معاً، وجنباً إلى جنب مع التيار الديني، المتمثل بأصولية "حزب النهضة" الظاهرية وليبراليته الباطنية، وبأصولية حزب "الحرية والعدالة" (الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين) وحزبي "النور" و"الوسط" السلفيين؟من مظاهر التآلف والتضامن1- سيقول قائل إن دعوتكم- أيها الليبراليون- الآن، جاءت بعد هزيمتكم في الانتخابات التونسية، والمغربية، والمصرية. ولولا هذه الهزيمة، لما وضعتم عصا السمع والطاعة للتيار الديني كما تفعلون الآن. وهذا قول صحيح، فنحن- كليبراليين- لن نكابر، ولن نستنكر، ولن نتعالى. ونحن نعلم- منذ البداية- أن "الغلبة الانتخابية"، ستكون للتيار الديني، لأسباب كثيرة منها:■ أن الشارع العربي شارع متدين تديناً شعبياً، وهو يصدق رجل الدين أكثر مما يصدق "الأفندي"، الليبرالي، ويطيع رجل الدين إطاعة تكاد تكون عمياء في قوله، وفعله.■ أن الفقر، والجوع، والحاجة المادية، لن يخفف منها غير التيار الديني، الغني مالياً بفضل ما يتلقى من هبات وأعطيات، من الأثرياء العرب المساندين للتيار الديني مالياً وسياسياً.■ أن الناخب العربي ليس ناخباً سويدياً، أو هولندياً، أو بريطانياً مثقفاً سياسياً ثقافة عريقة، لكي يستطيع التمييز بين المرشحين، وبرامجهم السياسية، فيما لو علمنا أن الأمية بين الناخبين، مازالت تتراوح بين 30-50% في معظم الأقطار العربية، وربما تزيد في مصر على هذه النسبة.■ لم تكن برامج الأحزاب الليبرالية الانتخابية واضحة وواقعية، ومفهومة لدى الناخبين العرب الذين هم أميون في معظمهم، ولا يفقهون الفروق السياسية بين البصل والفجل. كما كان في برامج الأحزاب الليبرالية من العبارات والشعارات ما أطلق عليه التيار الديني "الأفكار المستوردة من بلاد الكفار" كـ"الديمقراطية"، و"الليبرالية"، و"الحداثة"، و"العَلْمانية"... إلخ. ومن فاز من الليبراليين في كثير من المواقع التونسية، والمغربية، والمصرية، كان مُتخفياً تخفياً سياسياً، تحت قناع أحد التيارات الدينية. ولو اكتشف الناخبون، أن من انتخبوه هو ليبرالي علماني ينادي بفصل الدين عن الدولة لما انتخبوه، وسيكون مصيره السقوط والفشل في الانتخابات القادمة.■ أن معظم الشعارات الدينية المتشددة- "لا سياحة بعد اليوم"، و"الأقباط الذميون"، "لزوم المرأة لبيتها"... إلخ- التي أُطلقت أثناء الحملات الانتخابية، لن تجد لها مجالاً للتطبيق على أرض الواقع العربي الحالي، بعد ثورة الاتصالات والمعلومات، وانتشار العولمة، وتحوُّل العالم إلى قرية إلكترونية كونية، تحكمها حزمة من القيم والشرائع الجديدة، التي لا مفر من تطبيقها، وإلا عانى المواطن الفقر، والجوع، والعزل السياسي التام. ولعل تجربة حركة "حماس" في غزة أكبر دليل على ذلك. 2- يدعو الليبراليون، بادئ ذي بدء إلى الحرية والديمقراطية. والتيار الديني لا ينكر مثل هذه الدعوة، ولكنه يطلب تحديداً لها، فهو لا يُقيد الحريات بقدر ما يُقننها، أي يضعها ضمن قوانين وأنظمة محددة. والإسلام عندما جاء في القرن السابع الميلادي، لم يُقيد حرية العرب العامة، ولم يستنكر، ويُلغي الكثير من الحريات، بل أبقاها كما هي، ولكنه قننها، وصاغ لها الأُطر، والأنظمة، والقوانين، التي ضبطت حركتها، وكيفية تعاطيها، ونحن اليوم نعيش في عصر، تُوجد فيه حريات واسعة، ومتنوعة، وبحاجة إلى نظر، وتقنين منا، بما يتلاءم وتربيتنا وتكويننا.فهذه الحريات- في معظمها- جاءتنا من الغرب، الذي سبقنا وعياً، وعلماً، وثقافة، واقتصاداً، وسياسة، وسلاحاً، ومعرفة، ونحن متخلفون وراءه، وربما كانت بعض هذه الحريات توافق الغرب، ولا توافقنا، وتصلح له، ولا تصلح لنا، وتفيده، وتضرنا... إلخ، فيجب أن ننظر فيها (ليبراليين وتيارا دينيا) نظرة فاحصة، بقصد التوفيق لا التفريق، والتنسيق لا النفي، والمنفعة لا المضرة.3- ومن مظاهر التآلف والتضامن السياسي بين الليبراليين والتيار الديني، ما قامت به الأحزاب الدينية-السياسية في تونس، والمغرب، ومصر، وما فعله حزب "الحرية والعدالة" (الجناح السياسي لجماعة "الإخوان المسلمين")، وما فعله "حزب النهضة" التونسي، و"حزب العدالة والتنمية" المغربي كذلك. فحزبا "العدالة والتنمية"، و"الحرية والعدالة"، تبنيا معظم ما جاء في برامج الأحزاب اليسارية (الكتلة المصرية)، و"الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، و"الحزب الاشتراكي الموحد"، وغيرهما من الأحزاب المغربية اليسارية. وقطع هذان الحزبان ("الحرية والعدالة"، و"العدالة والتنمية") الطريق على بقية الأحزاب اليسارية، بتبنيهما معظم البرامج العصرية، والليبرالية للأحزاب اليسارية، لكي يضمنا نجاحاً انتخابياً آخر في الانتخابات التشريعية القادمة، ولكي يضمنا تأييد الشارعين: الديني والليبرالي في كل من مصر، والمغرب، كما فعل "حزب النهضة" التونسي.4- تقوم الليبرالية على مبدأ "الحرية الفردية"- كما يقول المفكر المغربي حازم القواسمي، رئيس "جمعية الرواد الشباب"، وعضو مجلس إدارة "مرصد العالم العربي للديمقراطية والانتخابات"- فالفرد هو الأساس، والحرية والاختيار هما حجر الزاوية في الفلسفة الليبرالية. ("الليبرالية في العالم العربي، رؤى وتصورات لسياسيين عرب"، ص 18). والإسلام النقي، جاء من أجل إصلاح حال الفرد، ووضعه في الموضع الإنساني الصحيح، وأقرَّ له بحرية التفكير، وحرية الاختيار فيما بعد، والقرآن الكريم مليء بمثل هذه المبادئ. ومن هنا، تنطلق الليبرالية مع التيار الديني الواعي- وغير المتشدد- معاً على الطريق، بعد أن ارتاح كلاهما من عناء معركة الانتخابات الشاقة.5- تؤمن الليبرالية بالثقافة المدنية التي تؤسس للعمران الإنساني- كما يقول سائد كراجة الباحث الليبرالي الأردني، وعضو "اللجنة الملكية لتطوير التعليم"، و"اللجنة العليا لشؤون المرأة"- والعمران كما ثبُت في التاريخ، أساسه القيم الفاضلة من الحق، والخير، والحرية. ("الليبرالية في العالم العربي، رؤى وتصورات لسياسيين عرب"، ص 28). والليبرالية، تشاطر الإسلام في هذه القيمة الحضارية، ولا تضارُب بين الليبرالية والإسلام، ولا اختلاف بينهما، بخصوص هذه القيمة الحضارية.معاً على الطريق لبناء الأوطانونأمل من الليبراليين والتيار الديني إدراك مثل هذه الحقائق، ليعملوا معاً، ويسيروا معاً على طريق واحد، من أجل بناء الأوطان التي قامت بها الثورات العربية.أما "المماحكات" والمناكفات الإعلامية المجانية، وغير المجدية، فلن نحصل من ورائها إلا على السراب، وإضاعة للوقت الثمين، الذي ذهب هدراً، خلال عقود طويلة مضت، استطاعت الدكتاتورية القروسطية خلالها أن تعيث في الأرض فساداً وظلماً، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.* كاتب أردني