القيادة السياسية الكويتية هي قيادة معروفة بتقاليدها العريقة والراسخة في الاعتزاز بالشعب الكويتي الأبي الذي صمد في وجه أعتى محنة عرفها تاريخ الكويت الحديث، وهي التي أكدت مراراً إيمانها الراسخ بالنهج الديمقراطي «المتجذر في وجدان أهل الكويت، توارثوه وتمسكوا به جيلاً بعد جيل»، ولن تقبل به بديلاً.

Ad

 كنت في الكويت منتصف الأسبوع الماضي، فوجدت القوم منغمسين في جدل سياسي صاخب حول استحقاقات الديمقراطية وهموم التنمية ومتطلبات الوحدة الوطنية، المجتمع الكويتي مجتمع شديد الحيوية وتاريخه العريق في الممارسة الديمقراطية على امتداد نصف قرن أعطاه ميزة نسبية على المستوى الخليجي في قابليته للحراك السياسي والاجتماعي والثقافي والفني والاقتصادي.

 فالقوم في شغل شاغل بقضية أمطار الاستجوابات التي تنهمر على الحكومة من غير أي ضرورة أو أهمية، فتعطل عملها وتضيع وقت المجلس، وتضعف فاعلية الاستجواب كأسلوب لمنع تجاوزات السلطة ومراقبة آدائها وتصحيح أخطائها، كان الاستجواب المقدم لرئيس الحكومة حول أمور تتعلق بسياسة الدولة الخارجية إثر تداعيات البحرين، وإرسال درع الجزيرة والعلاقة مع إيران.

 وقبل رئيس الحكومة التحدي واعتلى المنصة، وفنّد محاور الاستجواب، ولكن النواب المناوئين كانوا له بالمرصاد، إذ قد بيتوا النية على طلب "عدم التعاون"، ولما يفرغ المستجوب بعد من ردوده، ومع أن رئيس الحكومة عبر بحر الاستجواب بهدوء وثقة وسلام، فالأغلبية معه والاستجواب هزيل إلا أن المناوئين قد صمموا على رحيله، وقد سيروا من قبل مظاهرات ترفع شعارات تنادي بالتغيير على طريقة "جمعة الرحيل" التي أفرزتها ثورات الربيع العربي!

 حيوية المجتمع الكويتي مدهشة، إذ على الرغم من كل هذا الصخب السياسي الذي يصل أحياناً إلى التلاسن العنيف والتلويح بالأيادي غضباً واحتجاجاً، وتكون قبة عبدالله السالم مسرحه، وتجد فيه الصحف مادة خصبة للإثارة والتشويق، وزاداً لا ينضب لجذب القارئ والترويج كما حصل أخيراً في سجال بين الخرافي رئيس البرلمان والنائب أحمد السعدون الذي اعترض من غير أن يستأذن فقال له الرئيس: اقعد يا أحمد لا تصارخ، فغضب السعدون، وقال: "ماني ساكت... مو إنت اللي تقعدني... هذا مجلس الأمة موبيتك"، فرد الأول مهدئاً: "استريح بس استريح"، وما حصل بين وزير الدولة علي الراشد والنائب مسلم البراك، إذ صدر من الأول عبارة: "أنت جليل الحيا"، فرد الثاني: "جليل الحيا شاربك"!

تقدم هذه السجالات التي تحدث تحت قبة البرلمان مادة طريفة تتصدر صفحات الصحف، أقول: إنه على الرغم من حدة السجال البرلماني وسخونة الجو السياسي- الذي يتزامن مع سخونة الجو الطبيعي- عبر الفضائيات والصحف والدواوين والملتقيات إلا أنك تجد القوم في نهاية اليوم عندما يأتي المساء قد احتشدوا للسهر لإحياء ليالي مقامات الطرب العراقي، وعروض الفلامنغو الإسبانية وحفلات الغناء الشعبي الكويتي، حتى أن قاعات وسراديب وممرات مسرح عبدالعزيز حسين لا تكاد تسع الساهرين الذين يبغون الوناسة والطرب بحسب تعبير د. شملان العيسى!

تأتي هذه الاحتفالات في إطار مهرجان الموسيقى الدولي الرابع عشر الذي أبدع في تنظيمه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الحيوية والإبداع والتميز والمبادرات الفردية والأهلية هي بعض سمات المجتمع الكويتي الذي أنتج ديمقراطية خليجية عريقة سمحت حتى بالتظاهر ضد شخصية من الأسرة الحاكمة، رئيس الوزراء المعين من قبل سمو أمير الكويت فضلاً عن تقديم 10 استجوابات له و27 استجواباً لوزراء حكومته على امتداد 7 حكومات متعاقبة كان هو رئيسها.

وإذا كان المجتمع الأميركي هو المجتمع الأكثر شفافية على المستوى الدولي، وهي سر قوته وإبداعه، فإن المجتمع الكويتي بحسب تصوري هو الأكثر شفافية بين المجتمعات العربية والإسلامية، وهذا سر حيويته وإبداعه، ولعل هذا هو ما دفع السفيرة الأميركية "ديبورا جونز" إلى التصريح في مؤتمرها الصحفي الأخير بمناسبة انتهاء عملها وعودتها إلى واشنطن بأن "وثائق ويكيليكس" لم تتضمن أخباراً عن الكويت لأن السياسة الكويتية شفافة، وهي نفسها في السر والعلن، ثم تضيف: إن الكويت محظوظة منذ زمن الشيخ الراحل مبارك الكبير بوجود الديوانيات التي يتبادل الناس فيها الأفكار، ويتبادل الحاكم الرأي مع الناس، وعندما سئلت عن التظاهرات المطالبة برحيل رئيس الوزراء قالت: إذا استمع أوباما يومياً إلى منتقديه فلن يكون لديه الوقت للعمل... الكويتيون يعرفون جيداً كيف يتعاملون مع قضاياهم.

 أقول للذين ينتقدون ديمقراطية الكويت لأنها معطلة للتنمية: لا تصدقوا ذلك ولا تنخدعوا بما يحصل في الساحة من جدل وصخب، فهما مجرد غطاء سياسي وإعلامي فوقي غير معبر عن جوهر المجتمع الكويتي، هنا تحت هذا الغطاء شعب محب للحياة ومبدع، وما جداله وصخبه إلا لأنه يعشق بلده ويريد له الأفضل.

 تقول السفيرة الأميركية وهي متأثرة بالوداع: "إني محظوظة بعملي في الكويت"، كيف لا تكون كذلك! فأين تجد على امتداد رقعة العالم العربي قوماً يحيطون بها ويلاطفونها بقولهم: أنت من أهلنا... أنت في قلوبنا، في غير الكويت؟!

هذا هو المجتمع الكويتي أما القيادة السياسية الكويتية فهي قيادة معروفة بتقاليدها العريقة والراسخة في الاعتزاز بالشعب الكويتي الأبي الذي صمد في وجه أعتى محنة عرفها تاريخ الكويت الحديث، وهي التي أكدت مراراً إيمانها الراسخ بالنهج الديمقراطي "المتجذر في وجدان أهل الكويت، توارثوه وتمسكوا به جيلاً بعد جيل"، ولن تقبل به بديلاً كما جاء في كلمة أمير الكويت.

القيادة السياسية الكويتية عرف عنها الحلم الواسع والتسامح الرائع والعفو الكريم والصبر الجميل، فاتسع صدرها لاستيعاب كل أشكال الممارسة الديمقراطية حتى إن اشتط البعض وتجاوز التقاليد والأعراف، وهي تعرف متى تتدخل- بحكمة ومهارة ولطف- لضبط الأمور وإعادة التوازن حماية للديمقراطية وتصحيحاً لمسيرتها.

 ومن هذا المنطلق جاء خطاب الأمير معبراً عن مشاركة سموه شعبه مشاعر القلق تجاه "ما تشهده الساحة المحلية من أحداث وممارسات بالغة السوء والضرر، وما يجري تحت قبة البرلمان من ممارسات تخرج عن إطار الدستور وتتجاوز مقتضيات المصلحة الوطنية، وتتسم بالتعسف وتصفية الحسابات والشخصانية في تجاوز للضوابط التي وضعها الدستور لحماية الديمقراطية "، خطاب الأمير كان فزعة وطنية جامعة لحماية مكتسبات الديمقراطية.

 لقد جئت إلى الكويت بدعوة من "جمعية المستقبل الثقافية الاجتماعية"، وهي من جمعيات المجتمع المدني المعنية بتعزيز الوحدة الوطنية ونبذ التعصب المذهبي، تسعى إلى ترسيخ ثقافة الحوار ونشر التسامح عبر أنشطة ثقافية واجتماعية، وقد اختارت أن تنظم المهرجان العالمي الحادي عشر للإمام علي عليه السلام تحت شعار "الإصلاح منهج حياة"، ولا غرو فإن الموروث الفكري والمعرفي للإمام كنز لا ينضب لطلاب الإصلاح، ولا يخفى تأثير ثورات الربيع العربي في اختيار الجمعية لقضية الإصلاح موضوعاً لمؤتمرهم.

 جئت إلى هذا المجتمع الجدلي الصاخب ببضاعة مزجاة، هي ورقة عن "المشروع الإصلاحي للإمام علي ودور العنف- قوى الثورة المضادة- في إجهاضه" ولظروف خارجة عن إرادة المنظمين تم تأجيل المؤتمر، لكن الإخوة أعضاء مجلس إدارة الجمعية تلطفوا بسماع ملخص عن ورقتي التي حاولت أن أقول فيها: ما أشبه اليوم بالبارحة! فما يحصل اليوم على الساحة من ثورات تطالب بالتغيير والإصلاح ومكافحة التسلط والفساد في مواجهة قوى الثورة المضادة التي تحاول إجهاض مشاريع الإصلاح حفاظاً على مصالحها، حصل مثلها أيام الخلافة الراشدة إبان عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه وما تلاه، وكأننا أمة لا تتعلم ولا تستوعب دروس التاريخ.

* كاتب قطري