«دار قرطاس» والمدح في الميت له مصداقية كبيرة، ليست فقط دار نشر تطبع ما يعرض عليها كأي مطبعة تجارية، وليست مكتبة تبيع أعمال تركي الحمد وعبده خال ونجيب محفوظ وباولو كويليو إلى جانب الأقلام ومساطر قلوب الحب وكراسات "سبونش بوب" و"شنط هاري بوتر"، وليست مقهى فاخراً يبيع كتب البن مع الكتب المصقولة، إنها دار نشر تنويرية.
بهدوء تام، ووسط حضور لم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة تم دفن مكتبة "دار قرطاس"، وهي في ريعان شبابها الذي لا يتجاوز السبعة عشر عاماً، ودفن معها خبر الوفاة ومسيرة عمل مضنية أثمرت خمسمئة عنوان موزعة ما بين كتب أصدرتها وكتب تبنتها وأخرى قامت بطباعتها.ليس خبر وفاة منارة علم وواحة أدب وثقافة في صحراء العرب المخضرة بالجفاف تجاه كل ما هو جديد ومختلف، والمزدهرة بثقافة الجذور والتفاخر بالأنساب، وما كان في غابر الأزمان، ليس ذلك هو الخبر على الإطلاق، فقبل "قرطاس" كانت "وكالة المطبوعات" التي انطلقت منذ بداية الخمسينيات وانطفأ نورها قبل أعوام قليلة، وقبلها "دار الربيعان" التي بدأت فعليا عملية التصفية للآلاف من الكتب القيّمة "بالكود"، لولا اللمسة الحانية من سمو أمير البلاد التي منحت الحياة لدار نشر محترمة بعد أن كادت تختفي.الخبر المؤلم والمزعج هو أن مصير المبادرات الثقافية للأفراد العاديين بات محتوما، وهو الفشل داخل واقع اجتماعي مشبع بالقيم الاستهلاكية، لا يشجع على القراءة ويستخف بكل ما له علاقة بالثقافة الجادة التي تبني إنساناً منتجاً وعقلاً راشداً وضميراً حياً، ولم يعد المجال مفتوحا سوى لطرفين: المؤسسات الحكومية المعنية بالثقافة، وهذه تحمل اليوم الاسم والرخصة فقط للعمل داخل المجال الثقافي بعد تخلي الدولة عن مشروعها الثقافي من ناحية، وغرق تلك المؤسسات بالبيروقراطية والقياديين غير المعنيين بالشأن الثقافي، والطرف الثاني هم أصحاب الأعمال المهتمون بالثقافة ودعم المشاريع الإبداعية، وهؤلاء رغم دورهم المهم فهم يعملون وفق سياسات خاصة قد لا تنفع المجتمع.إن المبادرات الثقافية لا تحتاج بالضرورة إلى دعم مالي من الدولة، ولكنها تحتاج إلى بيئة ثقافية متكاملة من أركانها النظام التعليمي الذي يحث على عادة القراءة، وكلنا نذكر حصص المكتبة التي اختفت اليوم ودورها في صنع طالب يقرأ مواضيع خارج المنهج ويستمتع بها، وهناك مكتبة المنزل التي أصبحت من لوازم الديكور مع التلفزيون ومشغل الأقراص المدمجة، وهنا أسأل: هل الفرد الذي يولد في منزل فيه مكتبة، ووالدان يحبان القراءة مثل الفرد الذي لم يعرف شكل الكتاب سوى في المدرسة؟وتأتي المشاريع الثقافية التي ترعاها الدولة أو أصحاب الأعمال لتكمل الدور في تحريك الساحة الثقافية والأدبية والعلمية، وتوجد صلات الشراكة مع دور النشر، وتخلق حالة المنافسة للفهم أو تقديم الأفضل."دار قرطاس" والمدح في الميت له مصداقية كبيرة، ليست فقط دار نشر تطبع ما يعرض عليها كأي مطبعة تجارية، وليست مكتبة تبيع أعمال تركي الحمد وعبده خال ونجيب محفوظ وباولو كويليو إلى جانب الأقلام ومساطر قلوب الحب وكراسات "سبونش بوب" و"شنط هاري بوتر"، وليست مقهى فاخراً يبيع كتب البن مع الكتب المصقولة، إنها دار نشر تنويرية لا يصدر عنها غير الكتب التي تستحق أن توصف بأنها كتب، ومكتبة تبيع أجود الكتب المحلية والعربية والدولية في مواضيعها ومستواها، ومجلة قد تكون هي الأولى التي تصدر في الخليج العربي وتعنى بعالم الكتاب، وأخيراً هي مؤسسة ثقافية شجعت المؤلفين الجدد على طباعة أعمالهم المميزة بدون مقابل.لقد رحلت "دار قرطاس" إلى الأبد ودفن معها كما ذكرت خبر وفاتها الذي لن يكون له مكان للنشر أو الانتشار بين أخبار الكوادر ومعارك التحدي السرمدي بين سلطتين لا تستحق أي واحدة منهما البقاء ساعة واحدة.
مقالات
الأغلبية الصامتة: قرطاس ... البقاء لله
13-10-2011