لأكثر من ستة عقود، كانت عملية التكامل الأوروبي في تطور مطَّرِد، وكل خطوة اتخذت بدءاً من الاتحاد الأوروبي للفحم والصلب إلى الاتحاد الأوروبي اليوم، كانت تسعى إلى تحقيق المصلحة المشتركة وتستند إلى قيم مشتركة (الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية)، وأهداف مشتركة (النمو الاقتصادي والرخاء وتوطيد مكانة أوروبا على الصعيد الدولي)، وفي العام المقبل، ستكون نتيجة كل هذا- القواعد والمؤسسات المشتركة التي أقامها الأوروبيون بشق الأنفس- موضعاً للاختبار على نحو لم يسبق له مثيل.

Ad

في عام 2011، بدأت المؤسسات الأوروبية تهتز، بعد أن انتقلت أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو- التي حركتها الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي اندلعت في عام 2008- من البلدان الواقعة على أطراف منطقة اليورو إلى البلدان الواقعة في مركزها. والواقع أن قدرة الاتحاد الأوروبي على المقاومة- بل قدرته على البقاء- أصبحت محل تشكيك في زمن من التحولات الجغرافية السياسية العميقة، حيث باتت أوروبا الأكثر قوة ضرورة أساسية.

إن القوة العالمية تتحول الآن باتجاه آسيا ومنطقة الباسيفيكي، كما ظهرت قوى فاعلة جديدة غير حكومية- اكتسبت نفوذاً في الآونة الأخيرة- وبدأت في بعض الحالات (المنظمات الإرهابية على سبيل المثال) بتعريض قدرة الدول على ضمان الأمن القومي للخطر. وأصبح الانتشار النووي بمنزلة تهديد متزايد، وفق ما أظهره التقرير الأخير الصادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن إيران، وفي الوقت نفسه كان التقدم على مسار العديد من القضايا العالمية الحاسمة- خصوصاً أمن الطاقة وتغير المناخ- محبطاً إلى حد كبير، وتستمر ويلات الفقر والمجاعة- التي أصبحت بالغة الخطورة بشكل واضح في الصومال اليوم- في الإساءة إلى فكرة الحضارة ذاتها.

كل هذا يتناقض بشكل صارخ مع توقعات سادت في أعقاب نهاية الحرب الباردة بنشوء عالم "ما بعد التاريخ" المسالم الذي يمكّننا بسهولة من التكهن بتطوراته. والآن تتحدى الثورات العربية، التي ما كان أحد ليتصور اندلاعها قبل عام واحد، النظام الإقليمي الذي ساد لأكثر من نصف قرن. وبفضل كارثة التسونامي اليابانية أصبح مستقبل الطاقة النووية موضعاً للتشكيك في أنحاء العالم المختلفة، ولعل الأمر الأكثر لفتاً للانتباه أن الانحدار النسبي العالمي للولايات المتحدة، التي كانت بمنزلة المرتكز الاقتصادي والأمني للعالم منذ عام 1945، بات ملحوظاً على نحو لا لبس فيه في عام 2011، وانعكس في الاستقطاب والشلل السياسيين، وتخلله خفض التصنيف الائتماني.

لذا فإن التحديات الاستراتيجية التي تواجه الاتحاد الأوروبي هائلة؛ ولكي يتسنى لهذا الاتحاد التصدي لها يتعين عليه أولاً أن يستعيد مصداقيته الدولية. فمنذ تبني معاهدة لشبونة في عام 2009، تم إحراز تقدم كبير- ولا بد أن يستمر هذا التقدم- نحو إصلاح النظام المالي وتنظيمه، ولكن العديد من القرارات جاءت متأخرة أكثر مما ينبغي أو لم تذهب بعيداً بالقدر الكافي للتعامل مع خطورة الأزمة، وهو القصور الذي قد يؤدي إلى عواقب بعيدة المدى.

واليوم بات لزاماً على الاتحاد الأوروبي أن يعزز عملية التنسيق المؤسسي والمالي، فالاتحاد الاقتصادي غير قادر على العمل بالشكل اللائق ما لم يكن مدعوماً بأعراف مالية ملزمة فضلاً عن التكامل السياسي المطلوب، وكما أثبتت أزمة الديون السيادية، فإن اليورو يحتاج إلى آليات قادرة على مواجهة الصدمات غير المتناسبة، وهذا يعني ضمناً إنشاء خزانة مشتركة، وتتلخص الخطوة الأولى المهمة في مواجهة هجمات المضاربة التي تعانيها اقتصادات منطقة اليورو اليوم في الالتزام بقدر أعظم من تقاسم المخاطر ومنح البنك المركزي الأوروبي سلطات أكبر. كما يتطلب الأمر إبرام ميثاق استقرار أكثر صرامة وقوة من أجل تحقيق قدر أعظم من التكامل.

وأخيراً، طُرِحَت هذه التحديات في إطار قمة الاتحاد الأوروبي الحاسمة التي عقدت في شهر ديسمبر، حيث حاول زعماء أوروبا التوصل إلى حل لأزمة الديون السيادية يضمن استقرار منطقة اليورو، وكان الدرس الرئيس واضحا: إذا كنا راغبين في إخراج الاتحاد الأوروبي من هذه الأزمة، وقد أصبح أكثر قوة، فلا بد أن يحرص أي اتفاق على إيجاد التوازن بين التقشف والحاجة إلى تحفيز الاقتصاد... ببساطة، من دون النمو وزيادة فرص العمل، لن ينجح أي حل للمشاكل التي تواجه منطقة اليورو اليوم.

وعلى وجه الخصوص، يتعين على اقتصادات منطقة اليورو أن تربط استراتيجيات النمو لديها بالقدرة التنافسية في الأمد البعيد، وهو الأمر الذي يتحدد في نهاية المطاف وفقاً للقيمة المضافة للسلع والخدمات، والواقع أن الأسواق الناشئة تدرك هذه الحقيقة: ففي غضون فترة قد لا تتجاوز خمسة عشر عاما، ستستحوذ الصين والهند على 20% من الإنفاق العالمي على الاستثمار في مشاريع البحث والتطوير، أي أكثر من ضعف حصتهما الحالية.

وفي الوقت نفسه، سيواجه الاتحاد الأوروبي قيوداً ديموغرافية خطيرة: ففي عام 2025، ستمثل أوروبا 6.5% فقط من سكان العالم، مقارنة بنحو 61% في آسيا، وسيكون متوسط عمر السكان في الاتحاد الأوروبي 45 عاما، مقارنة بنحو 28 عاماً في الهند، و37 عاماً في الصين، و38 عاماً في الولايات المتحدة، وفي غياب الاستراتيجيات المناسبة في التعامل مع الهجرة، والتكامل، والرعاية الصحية، والتعليم، وما إلى ذلك، سيتراجع النمو الأوروبي وقدرته التنافسية، وستتفاقم التوترات الاجتماعية وتتكاثر.

كما يتعين على أوروبا أن تساهم في إصلاح النظام التقليدي للعلاقات الدولية، فقد صُممت المؤسسات المتعددة الأطراف القائمة بحيث تتناسب مع عالم متلاش يرتكز على الغرب، وفي الوقت نفسه، فإن تشتت القوى، ودرجة الاعتماد المتبادل، والبعد الهائل من التحديات التي تواجه العالم، تتطلب إدارة عالمية فعّالة ومشروعة وخاضعة للمساءلة.

والواقع أن العجز عن التوصل إلى الإجماع بشأن قضايا ملحة، مثل القمع الداخلي في سورية، أو مشاكل مزمنة مثل تغير المناخ، يسلط الضوء على التعقيد (المتزايد) الذي يميز الحكم العالمي والمسؤولية العالمية.

إن استيعاب مؤسسات اليوم في القوى العالمية الجديدة يشكل تحدياً رئيساً لا يمكن تأجيله في عام 2012. على سبيل المثال، مع استعداد صندوق النقد الدولي للمراجعة العامة لحصص إسهامات الدول الأعضاء في عام 2014، فإن أوروبا تُعَد الكيان الأفضل وضعاً على مستوى العالم للدعوة إلى التعددية الفعَالة وتيسير التكيف والتوصل إلى اتفاق من خلال تبني موقف مشترك لتصحيح فرط التمثيل في عالم اليوم.

إن التحدث بوضوح من شأنه أن يمكن أوروبا من تعزيز مصالحها بقدر أعظم من النجاح من خلال تطوير الشراكات، ليس فقط مع الحلفاء التقليديين مثل الولايات المتحدة، بل مع الزعامات العالمية الجديدة مثل الصين والبرازيل، واللاعبين الاستراتيجيين مثل تركيا وروسيا، ومع التكتلات الإقليمية المتزايدة الأهمية والتي تتشكل حول هذه القوى الجديدة، أيضاً، ففي الشرق الأوسط- المنطقة التي لا تتمتع بمدرج هبوط واضح، خلافاً لأوروبا الشرقية- يشكل الدعم الأوروبي ضرورة أساسية لبناء إطار إقليمي جديد.

لا أحد يستطيع أن يزعم أن التصدي لكل هذه التحديات سيكون سهلاً يسيراً، فكل الطرق لا تخلو من المرتفعات والمنخفضات، تماماً كما تشكل كل أزمة درساً جديداً.

في عام 2012، لابد أن يدور الدرس حول أهمية تبني قدر أعظم من التكامل السياسي والتنظيم المالي، وأهمية الإطار المؤسسي المشروع والشفاف، والإجماع، ومن المؤكد أن كل المشاكل قابلة للحل إذا سلطنا عليها القدر الكافي من الضوء، وحللنا الموقف من خلال رؤية استراتيجية واضحة.

* خافيير سولانا | Javier Solana

"بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة"