التفاوت وعدم الاستقرار

نشر في 16-10-2011
آخر تحديث 16-10-2011 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت شهد هذا العام موجة عالمية من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية وعدم الاستقرار، حيث تدفقت حشود من الناس إلى الشوارع الحقيقية والافتراضية: الربيع العربي؛ وأعمال الشغب في لندن؛ واحتجاجات أبناء الطبقة المتوسطة في إسرائيل ضد ارتفاع أسعار المساكن والضغوط التضخمية المفروضة على مستويات المعيشة؛ واحتجاجات الطلاب في شيلي؛ وتدمير السيارات الباهظة الثمن (القطط السمان) في ألمانيا؛ وتحرك الهند ضد الفساد؛ والاستياء المتصاعد من الفساد والتفاوت في الصين؛ والآن حركة "احتلوا وول ستريت" في نيويورك وفي أنحاء الولايات المتحدة المختلفة. ورغم أن هذه الاحتجاجات لا يجمع بينها موضوع موحد، فإنها تعبر بأساليب مختلفة عن المخاوف الجدية التي تعتمل في أنفس أبناء الطبقة المتوسطة العاملة إزاء توقعاتهم في مواجهة التركيز المتنامي للسلطة بين أبناء النخبة الاقتصادية والمالية والسياسية، والواقع أن الأسباب وراء مخاوفهم هذه واضحة بما فيه الكفاية: ارتفاع مستويات البطالة والبطالة المقنعة في الاقتصادات المتقدمة والناشئة؛ وافتقار الشباب والعاملين إلى المهارات والفرص التعليمية اللازمة لتمكينهم من المنافسة في عالم تحكمه العولمة؛ والاستياء ضد الفساد، بما في ذلك الأشكال المقننة مثل جماعات الضغط؛ والارتفاع الحاد في تفاوت الدخول والثروات في الاقتصادات المتقدمة والناشئة السريعة النمو. لا شك أن الانزعاج الشديد الذي يشعر به العديد من الناس من غير الممكن أن يتلخص في عامل واحد، فعلى سبيل المثال، يرجع التفاوت بين الناس إلى أسباب عديدة: إضافة 2.3 مليار صيني وهندي إلى قوة العمل العالمية، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الوظائف والأجور المتاحة للعمال غير المهرة والموظفين من الاقتصادات المتقدمة الصالحين للعمل في الخارج؛ والتغيرات التكنولوجية القائمة على المهارات الفردية؛ والتأثيرات المترتبة على حصد الفائزين لكل شيء؛ والظهور المبكر للتفاوت في الدخول والثروات في الاقتصادات السريعة النمو ذات الدخول المنخفضة سابقا؛ والضرائب الأقل تدرجا. وكانت الزيادة التي سجلتها الروافع المالية في القطاعين العام والخاص، وما ارتبط بها من فقاعات الأصول والائتمان، راجعة بشكل جزئي إلى عدم المساواة والتفاوت، ذلك أن النمو المتواضع الذي سجلته دخول الجميع باستثناء الأغنياء على مدى العقود القليلة الماضية كان سبباً في إيجاد فجوة بين الدخول والتطلعات فيما يتصل بالإنفاق، وفي البلدان الأنغلوساكسونية، تلخصت الاستجابة في إضفاء الطابع الديمقراطي على الائتمان- من خلال التحرير المالي- وبالتالي تغذية الارتفاع في الديون الخاصة مع لجوء الأسر إلى الاقتراض لتعويض الفارق، وفي أوروبا تم سد الفجوة من خلال توفير الخدمات العامة- التعليم المجاني والرعاية الصحية، إلى آخر ذلك- التي لم يتم تمويلها بالكامل من الضرائب، الأمر الذي أدى إلى تغذية العجز والمديونية العامة، وفي كلتا الحالتين، أصبحت مستويات الدين في نهاية المطاف غير قابلة للاستمرار. والآن تعمل الشركات في الاقتصادات المتقدمة على خفض الوظائف، بسبب نقص الطلب النهائي، الأمر الذي أدى إلى فائض في القدرة وحالة من عدم اليقين بشأن الطلب في المستقبل، ولكن خفض الوظائف من شأنه أن يزيد من ضعف الطلب النهائي، لأنه يعمل على تقليص دخول العمال وزيادة التفاوت، ولأن تكاليف الأيدي العاملة في الشركات تعادل دخل عمل شخص آخر وطلبه من السلع الاستهلاكية، فإن التصرف المنطقي على المستوى الفردي بالنسبة إلى شركة ما قد يشكل كارثة في الإجمال.

والنتيجة هي أن الأسواق الحرة أصبحت عاجزة عن توليد القدر الكافي من الطلب النهائي، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال كان خفض تكاليف العمالة بشكل حاد سبباً في تقليص حصة دخل العمال في الناتج المحلي الإجمالي، ومع استنفاد الائتمان، أصبحت التأثيرات المفروضة على الطلب الكلي بسبب عشرات الأعوام من إعادة توزيع الدخول والثروات- من العمالة إلى رأس المال، ومن الأجور إلى الأرباح، ومن الفقراء إلى الأثرياء، ومن الأسر إلى الشركات- بالغة الشدة، بسبب تدني الميل الهامشي لدى الشركات، وأصحاب رؤوس الأموال، والأسر الثرية إلى الإنفاق. والمشكلة ليست جديدة، فقد أفرط كارل ماركس في الترويج للاشتراكية، ولكنه كان محقاً عندما زعم أن العولمة، والرأسمالية المالية غير المقيدة، وإعادة توزيع الدخول والثروات من العمالة إلى رأس المال، كل ذلك قد يدفع بالرأسمالية إلى تدمير الذات. وكما زعم فإن الرأسمالية غير المنظمة من الممكن أن تؤدي إلى نوبات منتظمة من فرط القدرة، وانخفاض الاستهلاك، وتكرار الأزمات المالية المدمرة، التي تتغذى على فقاعات الائتمان وازدهار وكساد أسعار الأصول. حتى قبل اندلاع أزمة "الكساد العظيم" في ثلاثينيات القرن العشرين، أدرك أبناء الطبقات "البرجوازية" المستنيرة أن تجنب الثورات يستلزم حماية حقوق العمال، وتحسين الأجور وظروف العمل، وإقامة دولة الرفاهة لإعادة توزيع الثروة وتمويل المنافع العامة: التعليم والرعاية الصحية وشبكة الأمان الاجتماعي، وبعد أزمة الكساد الأعظم تسارعت الضغوط في اتجاه التعجيل بإقامة دولة الرفاهة الحديثة، عندما أخذت الدولة على عاتقها المسؤولية عن تثبيت استقرار الاقتصاد الكلي، وهو الدور الذي تطلب صيانة طبقة متوسطة عريضة من خلال توسيع نطاق توفير المنافع العامة من خلال فرض الضرائب التصاعدية على الدخول والثروات وتعزيز الفرص الاقتصادية للجميع.

وبالتالي كان ارتفاع دولة الرفاهة الاجتماعية بمنزلة الاستجابة (في الأنظمة الديمقراطية المؤيدة للسوق غالبا) لتهديد الثورات الشعبية، والاشتراكية، والشيوعية، مع ارتفاع وتيرة وشدة الأزمات الاقتصادية والمالية. ثم أعقب ذلك ثلاثة عقود من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي النسبي، من أربعينيات إلى سبعينيات القرن العشرين، وهي الفترة التي سجلت فيها معدلات التفاوت هبوطاً حادا، كما سجلت الدخول المتوسطة نمواً سريعا. والواقع أن بعض الدروس عن الحاجة إلى التنظيم الحكيم للنظام المالي فُقِدَت أثناء عهد ريغان وتاتشر، عندما نشأت الشهية إلى إلغاء التنظيمات بسبب العيوب التي شابت النموذج الأوروبي للرفاهة الاجتماعية، ولقد انعكست هذه العيوب في العجز المالي الهائل، والإفراط في فرض القيود التنظيمية، والافتقار إلى الدينامية الاقتصادية على النحو الذي أدى إلى تصلب النمو آنذاك ثم اندلاع أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو الآن. ولكن نموذج "دعه يعمل" الأنغلوساكسوني فشل الآن فشلاً ذريعاً. والواقع أن تثبيت استقرار الاقتصادات المؤيدة للسوق يتطلب العودة إلى التوازن الصحيح بين الأسواق وتوفير المنافع العامة. وهذا يعني الابتعاد عن كل من النموذج الأنغلوساكسوني القائم على إلغاء القيود التنظيمية المفروضة على الأسواق والنموذج القاري الأوروبي القائم على تمويل دولة الرفاهة بالعجز والاستدانة، وحتى نموذج النمو "الآسيوي" البديل لم ينجح في منع اتساع فجوة التفاوت في الصين والهند وأماكن أخرى من العالم. إن أي نموذج اقتصادي يتغافل عن معالجة التفاوت وعدم المساواة على النحو اللائق، لابد أن يواجه في نهاية المطاف أزمة شرعية. وما لم نعمل على استعادة التوازن بين الأدوار الاقتصادية النسبية لكل من السوق والدولة، فإن احتجاجات 2011 ستتفاقم وتصبح أكثر شراسة، مع تسبب التفاوت الاجتماعي والسياسي في نهاية المطاف في إلحاق الضرر بالنمو الاقتصادي والرفاهة في الأمد البعيد.

* نورييل روبيني | Nouriel Roubini ، رئيس مؤسسة روبيني للاقتصاد العالمي، وأستاذ الاقتصاد في كلية شتيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك، والمؤلف المشارك لكتاب "اقتصاد الأزمة".

"بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة"

back to top