هل ماتت النهضة العربية ولا عزاء في التنوير؟!

نشر في 21-09-2011
آخر تحديث 21-09-2011 | 00:01
No Image Caption
 د. شاكر النابلسي - 1 -

كان المفكر المصري الراحل غالي شكري (1935- 1998) قد أعلن في الجزء الأول من كتابه "دكتاتورية التخلف العربي، 1986" أن النهضة العربية بعد عصر محمد علي باشا، وما واكبه من المثقفين الطليعيين قد مات، ولا عزاء في التنوير!

فهل -حقاً- ماتت النهضة، ولا عزاء لنا في التنوير؟

يبدو أن غالي شكري قد أعلن ذلك النبأ المفجع، وهو مازال واقعاً– كما

ما زال معظم المثقفين العرب واقعين– تحت مأساة انفصال الوحدة المصرية– السورية 1961، وتحت تأثير كارثة هزيمة 1967، ورحيل عبدالناصر المفاجئ 1970، وهزيمة المشروع النهضوي الناصري، كما يتبين لنا من خلال كتابه المذكور، ولو عاش معنا إلى الآن، لكان له رأي آخر مختلف.

فالروح قد عادت للعرب ثانية– كما يبدو– في نهاية 2010 وبداية 2011 متمثلة بقيام الثورات الشعبية من تونس، إلى اليمن، مروراً بمصر، وليبيا، وسورية، كما أن هناك عدة بلدان عربية مرشحة لأن تكون مسرحاً لثورات وانتفاضات شعبية، على غرار ما يجري الآن في ليبيا، وسورية، واليمن، إذ لا فرق بين معظم أنظمة الحكم العربية، من حيث انتشار الفساد، والطغيان، والفقر، وغياب الحريات، التي بسببها نشبت ثورات تونس، ومصر، وليبيا، وسورية، واليمن.

- 2 -

ولكن علينا ألا نأخذ الأحداث بظواهرها فقط، بل علينا أن– في هذا الظرف الدقيق بالذات– نغوص في أعماق الأحداث، ونستبطن خفاياها، لكي لا ننساق– كما انساق الآخرون في بداية النصف الثاني من القرن العشرين- وراء شعارات برَّاقة، وهو ما حذَّرنا منه غالي شكري عندما قال: "الجماهير بعد انفعالها الشعوري المتدفق بالشعار اللامع، تطلب فور اليقظة برنامج عمل".

ولعل "برنامج العمل" للمرحلة الدقيقة من تاريخ العرب الآن، هي الخروج من الظلمات إلى النور، ولن يتم ذلك إلا عن طريق واحد لا ثاني له: إما التقدم، وإما الانقراض، ولن يتم التقدم إلا عن طريق اتباع مسار الحداثة، حيث لا مسار غيره، وكما يقول غالي شكري: "فإذا كان ممكناً لأسلافنا أن يناموا كأهل الكهف عشرة قرون، فإن العصر الجديد يخلو من الكهوف، ويستحيل فيها النوم الحضاري الطويل". (ص 77).

- 3 -

علينا ألا نهرب من مسار الحداثة الجاد هذا إلى مسارات أخرى مضللة وملتوية، ولن تقود إلى الطريق القويم، والقصير، والمؤدي إلى الحداثة.

فالهروب– مثلاً- إلى الماضي للبحث عن عناصر مفيدة للحياة الجديدة، لن يجدي الحداثة كثيراً، ولن يؤدي إلى طريقها، كذلك فإن تلفيق الأفكار وتركيب الأيديولوجيات على بعضها، فيما يمكن أن يُعرف بعملية "الترقيع"، لن يجدي أيضاً، ولن يؤدي إلى الحداثة. فالخلاص والوصول إلى الحداثة لن يتما إلا بتطبيق أفكار وممارسة قيم عصر الأنوار السياسية والاجتماعية والفكرية بكل أمانة، وإخلاص، وفي العمق، وليس على السطح، وفي القشور فقط، كما تمَّ في عصر النهضة، وكما تمَّ من قبل الدولة العربية الحديثة، في النصف الثاني من القرن العشرين.

- 4 -

يقول الباحث السوري-الفرنسي برهان غليون: "إن النهضة هي الحداثة، والنهضة لا تتحقق بدون ذاتية حرة ومتحررة، أكيدة وواثقة من قوتها، ومن هنا، كان حلُّ مشكلة الثقافة هو المسألة الأولى من مسائل النهضة، وتتضمن مسألة الثقافة عنصرين: موقفنا من الثقافة العربية ومن التراث، الذي يُعبِّر عنها. ونظرتنا إلى طريقة حسم الصراع العميق القائم فيها بين القديم والحديث، أو بينها وبين الثقافة الغربية، أو العصرية". ("اغتيال عقل"، ص 308).

ويؤكد المفكر التونسي العفيف الأخضر، أن الشعوب التي استطاعت الدخول إلى الحداثة هي تلك التي نجحت في فكِّ تماهيها مع ماضيها، فألمانيا لم تدخل الحداثة إلا بعد إقامة الحداد مرتين على تراثها، وكذلك فعلت اليابان في 1868، و1945، أما كيف نقيم نحن الحداد على ما فات ومات، فذلك يتجلّى في إعادة هيكلة مؤسستي التعليم والإعلام، ليقرأ الطالب والقارئ معركة "بواتييه"، من دون تحسّر على عدم فتح فرنسا، ويقرأ "الأندلس"، بدلاً من "الجنة الضائعة"، بلا تفكير بالعودة إليها إلا كسائح، ورفع خارطة فلسطين الانتدابية من الكتب المدرسية، وتعويضها بخارطة الأراضي المحتلة في 1967، ووضع حد في الكتب المدرسية لكل أسف على إلغاء أتاتورك للخلافة، وتطهير الكتب المدرسية من كل ما يشيطن المرأة، وغير العربي، وغير المسلم، والغرب، والحداثة، والفلسفة، والاجتهاد، والعقل، والمعتزلة، وجميع الفرق، التي كُفِّرت، وكفَّرت بعضها في الماضي.

وما يهدف إليه الأخضر من كل ذلك، إعادة تأسيس كيانات ديمقراطية فيدرالية هنا، ولا مركزية هناك، تتصالح مع شعوبها، ومع العالم، وتنسى الثارات القديمة والحديثة، لتتعلم إنجاز مهام التنمية المستدامة التي بها نكون، أو لا نكون!

ويضيف الأخضر قائلاً: "تبدو الحداثة- بما هي انخراط في المجتمع الدولي المعاصر باقتصاده المعولم، والمتدامج، وهيئاته الدولية، التي اقتطعت لنفسها أجزاء بكاملها من السيادة القومية التي كانت إلى عهد قريب من اختصاص الدولة والأمة الحصري، وبقيمه الكونية التي لا يمر انتهاكها دون عتاب فعلي أو رمزي- رهاناً لكل مشروع مجتمعي، جدير بهذا الاسم".

- 5 -

درج معظم المفكرين العرب المعاصرين، على القول إن الحداثة لا يمكن استيرادها من الخارج، وقال المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري (1936-2010)، إن الحداثة لا تستورد كسلعة من الغرب، ولا بُدَّ من صنعها من داخل تراثنا الإسلامي، مستشهداً بما حصل في عصر النهضة الأوروبية، عندما استلهم مثقفوها الحداثة من داخل الثقافة الأوروبية، لا من خارجها، ولكن العفيف الأخضر، يعتبر أن هذه المقولة جهلاً فاضحاً في تاريخ الحداثة الأوروبية، وعصر النهضة، بالذات.

فالنهضويون الأوروبيون كانوا قد عادوا إلى الثقافة الإغريقية– الرومانية الغريبة مبنىً ومعنىً، مبتعدين عن الحضارة اليهودية– المسيحية، كما أن الباحثين الأوروبيين الموضوعيين، يشيرون إلى تأثير الحضارة الإسلامية في نهضة أوروبا، وانتقالها من القدامة إلى الحداثة، نعم، كانت الحداثة الأوروبية داخلية المنشأ في القرن التاسع عشر، عندما كان التصنيع في الحدود القومية ممكناً، أما منذ القرن العشرين، وخاصة الآن، فالحداثة خارجية المنشأ، فالرساميل والتكنولوجيا– وهما أساس كل حداثة– لا يمكن توافرهما إلا في السوق الدولية.

والسوق القومية لم تعد مجالاً للمراكمة الرأسمالية، التي بات مجالها السوق العالمية، فبلدان جنوب شرق آسيا، دخلت الحداثة بواسطة الشركات العابرة للقارات، و90% من صادرات ماليزيا من إنتاج هذه الشركات، ولا دخل للإنتاج القومي فيها، وهذا هو المثال الذي يجب أن يُحتذى في العالم العربي.

فهل بهذا التفكير الحداثي الجديد تتجدد شروط النهضة العربية، وتتجدد الثقة بعصر الأنوار العربي الجديد، التي بدأت تباشيره تهلُّ علينا في نهاية 2010 وبداية 2011، وحتى الآن؟

* كاتب أردني

back to top