بروكلين هايتس
قبل قراءة رواية "بروكلين هايتس" لميرال الطحاوي، ظننت أنها ستتأسس على التناصّ مع رواية "وذيرينغ هايتس" لإميلي برونتيه، التي ظهرت حوالي منتصف القرن التاسع عشر. لكنني فوجئت بانقطاع الصلة بين العملين، وأن مرتفعات بروكلين في نيويورك لا علاقة لها بمرتفعات وذيرينغ في ريف يوركشير الإنكليزي، اللهم إلا الإشارة إلى صفة المكان بلفظه الأجنبي/ الغربي (هايتس/ heights) وليس بلفظه العربي (مرتفعات). وهذا التناصّ اللغوي هو الإيحاء الأكثر دلالة على الثيمة الأساسية في الرواية، والتي تدور حول الهجرة إلى الغرب ومعاناة تحديات العيش هناك. كثير من الأعمال الروائية طرحت إشكالية الهجرة إلى الغرب بما تحمله من صراعات وتحديات مع قيم مختلفة ومن محاولات فاشلة أو ناجحة للتأقلم، من أمثلة ذلك قنديل أم هاشم وعودة الروح وموسم الهجرة إلى الشمال وغيرها. وغالبية هذه الأعمال -إن لم تكن كلها- يكون الرجل هو الشخصية الأساسية التي تخوض تجربة العيش في الغرب بكل تداعياتها النفسية والفكرية والروحية، ولم تشذ عن ذلك إلا رواية (بروكلين هايتس)، التي اتخذت من تجربة المرأة الشرقية المغتربة منطلقاً لها.
وتبدو (هند) وهي الشخصية الرئيسة في الرواية، نموذجاً ممثلاً للمرأة العربية المتطلعة إلى التخلص من أثقال حياة ناقصة، والآملة في تجربة حياة أكثر انفساحا وأقل وطأة. وهكذا تجد (هند) نفسها في بروكلين/ نيويورك، امرأة وحيدة مطلقة وبصحبة طفل، امرأة تبحث عن ذاتها الضائعة بأقل المؤهلات اعتباراً في مدينة تعج بالمغتربين والمغامرين والمثقلين بتطلعات لا تلبث أن تتواضع وتقبل بما يسد الرمق! ولم تكن (هند) في تجربة الغربة تعاني شظف العيش وارتباك العلاقات والهشاشة وانمحاء الذات فقط، وإنما ظلت ترزح تحت وطأة أكوام من ذكريات ومشاهد وحياة سابقة ما فتئت تجثم على روحها وتتبعها إلى منفاها، لتزيدها رهقاً وتعاسة. فكانت حالها حال المغتربين أمثالها من لبنانيين وأفغان ومصريين ويمنيين وأخلاط أخرى من الشرقيين، يعيشون على ضفتي حياة: واقع مرتبك من جهة، وذكريات غاربة لا وجود لها إلا في المخيلة المتعبة من جهة أخرى. وتأتي شخصية (ليليت) لتوسع من شريحة المرأة المغتربة، فبدت ليليت في شيخوختها الواهنة صورة باهتة لامرأة حاولت أن تصنع لنفسها امتداداً آخر في أميركا، بعيداً عن ضيق الأفق وعراقيل زواج هشّ لم يسعدها أو يكرّس أمومتها. فغادرت مصر شابة لتصنع لنفسها ذاتاً أرادتها أكثر اشراقاً وتحققاً، لكنها انتهت إلى شيخوخة متداعية بهتت ذاكرتها، ثم انتهت في أيامها الأخيرة إلى غربة أكثر إرباكاً، وحين ماتت لم يتبقَ من أثرها غير (عفش) و(كراكيب) تناهب المارة ما صلح منها تاركين البقايا لسيارات القمامة. ويكاد التوحّد بين المرأتين (هند) و(ليليت) يصل مداه في المشهد الأخير حين تلتقط (هند) أوراقاً وخطابات مبعثرة بين محتويات الفقيدة، ثم تقول مخاطبة إحداهن: "أنا أشعر أنني عشتُ ذلك من قبل... كتبتُ هذه الكلمات وفتحتُ هذه الخطابات وعشتُ حياة هذه المرأة ". وبعيداً عن التفاصيل الثرية المندسة في حيوات المغتربين، تبقى الثيمة الأكثر إلحاحاً في مثل هذه الأعمال متمثلة في النبش في الجذور، جذور الإنسان وجذور ذكرياته وأنساغه الضاربة في الأوطان البعيدة التي لا يمكن التخلص من إلحاحها وحضورها رغم كل شيء. وإن كان ثمة مخرج من هذه الإشكالية فلعلها متمثلة في جيل الأبناء من الأطفال الذين يترعرعون بذاكرة طازجة وينشأون بلا جذور كابن (هند). وهكذا ففي الوقت الذي تنتهي فيه الرواية بانغماس (هند) في كوابيسها القديمة عن المقابر ووجه أبيها وتجاعيد جدتها وطفولتها المرتبكة ، تنفسح الدروب أمام طفلها الذي يرطن بلكنة أمريكية معلناً رغبته في تغيير اسمه إلى شيء آخر يشبه المكان والزمان الذي يعيشهما.