مسقط تهيئ لك نفسها
بعض المدن تحتاج منك إلى وقت من الجهد والعراك مع مزاجيتك وطباعك النفسية حتى يسلس لك القياد، فتبدأ في استيعابها وفهمها. ولكن "مسقط" تهيئ لك نفسها منذ البدء، وتدعوك مباشرة إلى السقوط في حضن وثير من الاسترخاء والتأمل الوادع! هل هي تلك الروحانية الآسرة التي تشمها في الأثير الموزع بين دكنة الجبال ورقرقة الموج؟ أم تراه ذلك المعمار المتأنق الأليف الممتد ببياضه الناصع على مدّ البصر، دونما نشاز يخدش الذائقة أو يلوث النظر، وإنما هو تدرجات من الخضرة والأبيض المتألق تحضنه صخور الجبل والقلاع المشرئبة. وأنت تتأرجح بين هذا وذاك تكاد تستشعر حولك هالات غير مرئية من غموض آسر يلف كل شيء، غموض قد يحتاج منك ربما إلى المزيد من التهيؤ والتأمل، حتى يمنحك شيئاً من أسراره... أو لا...!
كل شيء في مسقط يبدو نديّاً طازجاً نظيفاً وكأنه تمّ إنجازه البارحة! الزراعة المشذبة، الطرق الوادعة، الشواطئ المتأنقة بالنُصب والصروح، البيوت التي بدت لشدة نصاعتها وكأنها صُبغت للتو بريشة البياض، وحتى القلاع بدت مغسولة وباسقة رغم الزمن! أما روح المدينة الحقيقية فتظهر في عنصرين أساسيين هما الثقافة والإنسان. وحكاية الثقافة والإنسان في عُمان –مهما اجتهدنا في التحليل والتعليل– ستظل تتمحور حول جناحي الطموح والعراقة. أما الطموح فيكفي أن تلقي نظرة على صحافتها اليومية لتقرأ مثل هذه العناوين: افتتاح الحرم الجديد لكلية البريمي الجامعية / الاحتفال بتوزيع جائزة السلطان قابوس للخدمات الحكومية الإلكترونية / البلديات تواصل تنفيذ مشاريع السدود بمختلف أنواعها / انطلاق حملة ملتقى الأسرة والمجتمع التربوي في صلالة / منتدى لتشجيع ثقافة البحث العلمي / سلاح الجو يحتفل بمناسبة يومي القوات المسلحة والمتقاعدين... إلخ من مانشيتات صحافية تعكس مستوى التنمية المطردة والمشروعات الطامحة في سلطنة عُمان، علماً أن هذه العناوين تم اقتباسها من صحيفة واحدة هي صحيفة عُمان، وفي يوم واحد فقد وهو يوم الثلاثاء 13 ديسمبر 2011. ولإلقاء بعض الضوء على الثقافة والجهود الثقافية في عُمان، يكفي أن نشير إلى سبب هذه الزيارة لمسقط، وهو حضور مهرجان الشعر العربي الثالث، الذي تم استجابة لدعوة كريمة من النادي الثقافي هناك. ولعل أول ما يثير إعجابك وأنت بصدد الولوج إلى هذا الطقس الشعري الجميل، تلك التحفة المعمارية لمقر النادي الثقافي القائم باستدارته البديعة على كتف منحدر، وقد تدلت منه الشرفات والمشربيات، وانعكست أضواء المساء على أسواره فبدا أكثر شاعرية وأنساً. أما ضيوف المهرجان فقد أتوا من بقاع شتى ابتداءً من الإمارات والسعودية والبحرين، مروراً بلبنان والأردن والعراق، وانتهاءً بالجزائر. ولعل مفاجأة المهرجان السعيدة كانت بتقديم ذلك المزيج من الشعر العماني الذي أضفى على الأمسيات الشعرية خليطاً من عراقة الكلاسيكية وطزاجة الحداثة، الأمر الذي يؤكد مواكبة الصوت العماني –وخاصة من الشعراء الشباب– للمشهد الشعري العربي في حِراكه وحيويته. أما الحديث عن العراقة والتاريخ في عُمان فهذا مما يتعذر الولوج إليه في مثل هذه المقالات المبتسرة، بيد أن ظاهرة نسوية عمانية لفتت انتباهي، ولعل لها جذوراً تراثية عريقة في تاريخ الأنساب. وأعني بها انتساب المرأة لنفسها من خلال تأنيث اسم الجد أو العائلة ليأتي صفة خالصة لها! من مثل (عائشة السيفية)، (شيماء الإسماعيلية)، (علياء الجحافية)، (وضحى الفارسية)، (هدى الخروسية)... إلخ. وهذه كلها أسماء لنساء وفتيات عمانيات حقيقيات، اخترن أن يكن كجداتهن (ليلى الأخيلية) و(ليلى العامرية) و(عائشة التيمورية) اللاتي ربما كنّ أول من أنّث الانتساب إلى العائلة أو القبيلة. يحضرني في هذا المقام محاولة نوال السعداوي إعادة الاعتبار للانتساب لاسم الأم / الأنثى، فسمّت نفسها: نوال زينب السعداوي. ولو علمت بالابتكار الأخير للعمانيات لربما فضلت أن تسمي نفسها نوال زينب السعداوية، لتكرّس استقلالية المرأة واكتفاء الأنوثة بنفسها! ترى من قال إن حركات التحرر النسوي بدأت في العصر الحديث؟!