أولئك الراقصون
من أراد أن يعرف الصلة بين الغبطة الروحية والرقص، أو يكتشف الموسيقى الكونية في مسارات الطاقة الحركية في جسد الإنسان، فعليه متابعة برنامج So you think you can dance على قناة mbc الرابعة، مساء الخميس والجمعة من كل أسبوع. من يعاني من بقايا كآبة متلكئة، وأعراض من (ضيقة خلق) وفتور في الطاقة، فعليه بالمداومة على البرنامج المذكور أعلاه.
من لديه آثار من خيبات وأحزان مزمنة، وهبوط في المعنويات، ويأس، ونثار من أحلام متكسّرة، فليتعلم من أولئك الراقصين كالفهود البرية، المفعمين باللهاث والعرق والترقب. إنها فُرجة عجيبة على عبقرية الجسد الإنساني: جسد المرأة في تضاريسه المسبوكة في قالب بديع لا مثيل له بين الكائنات الحية في انحناءاته ومرونته، وفي لطف إيحاءاته، وخفته حين الاستدارة والقفز والطيران. وجسد الرجل في تناسق أعضائه، وإبائه، وروعة تكوينه. ثم تأتي درجة الإحساس بمعاني الحركات الجسدية، ومدى رهافتها وقدرتها على توصيل الرسالة المتضمنة في اللوحة الراقصة، لتكون الفيصل في درجة التفوق والإبداع. وطالما دار الجدل بين المحكمين والمتنافسين حول مدى انغماس مؤدي الرقصة وتمثله للمشاعر المقصودة، ومدى الانسجام وصدقه مع (المرافق) الآخر، وهو ما يسمى (الكيمستري). هذا البرنامج ليس مشروعاً للغبطة ومشهداً للعنفوان فقط، بقدر ما هو عرض عجيب لكوامن الطاقة الروحية والجسدية حين تتفجر وتتلون وتنطلق متحدية جاذبية الأرض، وقوانين الارتهان لأغلال الركون والبلادة والعجز. معايير التنافس في هذا البرنامج لا تقف عند مجرد الإكثار من التدريب والتمرين الحركي فقط، وإنما تتعدى ذلك إلى اختبارات مضنية لمعنويات المتنافسين ومدى استعدادهم للنمو، والتعلم من أخطائهم، ومدى ارتفاع روحهم الرياضية في لحظات التصفيات النهائية، والأهم من كل ذلك إصرارهم على التفوق وإبهار المحكمين بما يقدمونه من إبداع حركي متميّز. في أدبياتنا غالبا ما يرتبط الرقص بالخفة والرعونة أو بسوء المقاصد، أو في أحسن الأحوال نربطه بالألم والمعاناة. (فالطير يرقص مذبوحاً من الألم ) و(الفراشة ترقص في اللهب) و(السراب يتراقص للظمآن)، وفهد العسكر يقول: (رقصوا على نوحي وإعوالي وأطربهم أنيني)! وقلما نجد في ميراثنا الفكري والفني من يضع الرقص في مصاف الإبداعات الإنسانية الراقية. وهذا أمر يثير الدهشة، إذا أخذنا بعين الاعتبار ارتباط هذا النشاط الحركي بالطقوس وعادات الشعوب، وارتباطه غالباً بالمهن التي يمارسها الإنسان. وكما يدور الجدل في حال الموسيقى ما بين قبول ورفض وتحليل وتحريم، يظل ذات الجدل دائراً - وإن بصورة أشدّ – حول الرقص. ترى هذا في حفلات الأعراس والمناسبات والاحتفالات الشعبية، وترى قلوب الناس شتى وأهواءهم شتى، وبين هذا الرأي وذاك يبقى الجدل قائماً والرقص كذلك. ولكن يبقى أن الرقص فطرة أصيلة في الإنسان، وذات صلة وثيقة بروحانيته وتجليه في لحظاته النادرة. ويكفي أن الرقص ارتبط بالتصوف وبالتجليات الصوفية، حين يبدأ المريد في الدوران منطلقاً من نقطة مركزية تختصر الكون الأرضي، ثم يدور ويدور إلى مالا نهاية، منداحاً في آفاق المطلق الذي لا تحده حدود، ليتلاشى أخيراً فيه، وتنتفي عنده الأمكنة والأزمنة... فيا له من رقص!