نظر ريكاردوريس عبر النهر لقد انطفأت بعض الأنوار بينما أصبحت أنوار أخرى مرئية بصعوبة، بل وصارت أكثر إعتاماً.

Ad

"وقال ريس: لقد قلت إن السبب في عدم مجيئك هو أنك كنت متضايقاً، فقال بيسوا: هذا صحيح، فقال ريس: متضايقاً مني؟ فقال بيسوا: لست متضايقاً كثيراً منك، فالذي ضايقني وجعلني أشعر بالإعياء هو كل هذه الحركة جيئة وذهاباً وكل هذا الصراع العنيف ما بين الذاكرة التي تجذب والنسيان الذي يدفع”. تمثل هذه الفقرة التي كتبها الروائي البرتغالي الراحل خوسيه ساراماجو "جائزة نوبل عام 1998″ في روايته "عام وفاة ريكاردوريس” أقول تُمثل أحد أوجه الغبن الذي تعرض له الشاعر والكاتب الكبير، نعم لقد تم نسيانه ثم تذكره في الثمانينات من القرن الفائت، هذا الصراع وهذا الجذب الذي أختبر في شخصه أعاد ساراماجو صياغته بطريقة مرهفة وعلى لسان من؟ ريكاردوريس، أحد أشباه أو أنداد بيسوا نفسه. كنت في باريس وقتذاك عندما استيقظ العالم وهو يردد اسم بيسوا، هنا وهناك. هذا شاعر وكاتب منسي يكتشف فجأة، يا للمفارقة! لكن الروائي البرتغالي ساراماجو أصاب بدقة عندما أشار على لسان ريكاردو هذه المحادثة أيضاً: فقال ريس: أنا لم انسك. فقال بيسوا: يا عزيزي ريس، العالم ينسى كل شيء. فقال ريس: هل تعتقد أنك قد نُسيت؟ فقال بيسوا: العالم مهمل وكثير النسيان للغاية حتى انه يفشل في ملاحظة عدم وجود الشيء الذي قد نسي. كان ريكاردوريس يحاور بيسوا بعد عودته من منفاه البرازيلي إلى وطنه البرتغال بعد فترة حكم الدكتاتور سالازار.

يذكر الكاتب المغربي ادمون عمران المليح، في مقدمته لكتاب "اللاطمأنينة” الذي ترجمه الشاعر المهدي أخريف، أن بيسوا ظل مجهولاً في فرنسا إلى حدود عام 1988 حين شرعت دار فرنسية في نشر مجموعة أعماله. بيسوا الذي كانت حياته أقوى منه وفق تعبير أنطونيو تابوكي، ستلخص لنا واحدة من أجمل التأملات الخاصة بالعصر الذي عاش فيه، في كتابه المذكور. كتاب شذرات شخصي. بقدر ما هو شامل وموسوعي وعميق بقدر ما يحتوي على مزاج شاعر جاذب وممتلئ، يعبر العالم دون ضجة. "أشعر بأنني عابر سبيل مقدس، مغترب مكرم، متأمل بدون دافع ولا غاية، أمير المنفى الأكبر الذي منح لحظة الرحيل، آخر المتسولين، الصدقة المتطرفة لكآبته”. كتب بيسوا. ما يجذب ويستوقف في هذا الكتاب المكتوب على شكل يوميات شذرية، مقدار التفاصيل الحياتية والموضوعات الكبيرة، كالبهجة، الاغتراب، الحب، الموت، الطبيعة، السفر، إلخ… وقد تم تصعيدها شعرياً بصفاء يكاد يكون نادراً. روح مظللة بهبات سحرية، قوامها التأمل الفلسفي الحالم والجمال الذي يهرب من بين ايدينا. أنه ملك الحلم حقاً.

"لا أدري ما إذا كنت أحلم وأنا أعيش، أم أعيش وأنا أحلم، أم أن الحلم والحياة يوجدان مختلطين، ومتقاطعين بحيث يتشكل منهما وعيي على نحو متداخل”. يكتب في اللاطمأنينة. "لست متشائماً، أنا حزين”. كان يقول أيضاً: ولكن خلف هذا كله يكمن ذلك الجسد النحيل بالقبعة على الرأس والنظارات الصغيرة الجسد الذي تهاوى ذات يوم من عام 1935.