وداعاً يا راؤول رويز
عندما انطفأ قلب المخرج التشيلي الطليعي راؤول رويز في باريس قبل نحو ثلاثة أشهر قلت لنفسي هذا أحد آخر السينمائيين الكبار يرحل تاركاً أمثولته السينمائية الفذة لتأويلات وقراءات عديدة. رحل راؤول رويز عن عمر يناهز السبعين عاماً، في المدينة التي لجأ إليها وأحبها بعد الانقلاب الدموي الشهير الذي قام به العسكر بقيادة بينوشيه على الرئيس المنتخب آنذاك سلفادور الليندي عام 1973. غالباً ما وصف النقاد أفلام رويز بأنها نابعة من ضباب الواقعية السحرية التي عرفتها أميركا اللاتينية، إبان الستينيات من القرن الماضي، كان صاحب "تانغو الأرمل" 1967 "ثلاثة نمور حزينة" 1969 و"أسرار لشبونة" 2010، المأخوذة أحداثها عن كتاب كاميلو كاستيلو برانكو، قد ترك بصمة واضحة في حقل اللغة السينمائية التجريبية باعتماده على تراث السوريالية على نحو عميق، فصوره السينمائية تبدو شديدة القسوة أحياناً مع مزيج من السخرية السوداء تظل حاضرة في ذهن المشاهد حتى بعد مرور سنوات طويلة، كما في فيلمه "ثلاثة قروش من أجل بحار" فهو فيلم يصعب نسيانه، لقد شاهدته في نيويورك قبل عشرين عاماً تقريباً، ومازالت مشاهده المذهلة تتراءى أمام عيني. كان راؤول رويز يمتلك مخيلة تجر المشاهد إلى آفاق الشعر، والحلم، والحياة، العدمية أحياناً، غير أن رويز كغيره من السينمائيين الكبار، دخل فترة في حالة من الغسق الإبداعي خصوصاً في بداية الثمانينيات، فقدم جملة من الأفلام التي لم تكن في مستواه الإبداعي، وقد يبدو هذا شيئا طبيعيا إذا عرفنا أنه مخرج غزير الإنتاج، وقد بلغ إجمالي عدد الأفلام التي قدمها 117 فيلماً سينمائياً. غير أن رويز ظل في نهاية المطاف وفياً لنزعته السينمائية الممزوجة بالماركسية والفرويدية، كما ظل منتمياً إلى عدد من السينمائيين التشيليين الذين شكلوا جيلاً يسارياً على الصعيد السياسي كميغيل ليتين وهيلفيو سوتو وآخرين، ومن المعروف أن ميغيل ليتين كان قد دخل إلى تشيلي في مغامرة سرية، غاية في الخطورة، وصور فيلماً كاملاً في قصر الدكتاتور بينوشيه، وكان ينتحل صفة عامل كهربائي، ومع ذلك لم يتم التعرف عليه أو كشف هويته الحقيقية، وكان هذا مصدر الهام لغارسيا ماركيز الذي وضع كتاباً كاملاً عن هذه المغامرة الجريئة والصعبة.
في نيويورك تعرفت على رويز عن قرب فقد كان مدعواً لعرض بعض أفلامه وإلقاء المحاضرات في عدد من الجامعات الأميركية. بل وأخرج أحد أفلامه في نيويورك، وقد حضرت مع مجموعة من الأصدقاء مواقع تصوير الفيلم، وأذكر أن من حضر ولعب دوراً صغيراً في الفيلم المخرج الأميركي جيم جارموش. في تلك الفترة أجريت لقاءً مطولاً مع راؤول رويز على أمل أن أنشره في إحدى الصحف، وكان بصحبتي الصديق والسينمائي حاتم الطائي، غير أن القدر دائماً ما يخفي لعبته الغامضة إذ بسبب انتقالي من مسكن إلى آخر في مدينة مثل نيويورك، التي تسبب للقاطن فيها إرباكاً ودواراً شيطانياً، فقدت الكراسة الكاملة التي تتضمن الحوار، وأصبت بحالة إحباط شديد، لا يمكن استعادة ما مضى، هذه هي الأمثولة. غير انني لا يمكن أن أنسى لحظات الألفة والمتعة مع رويز وأصدقاء آخرين، في مشارب ومطاعم نيويورك، وأذكر أن رويز رغب مرة في ارتياد مطعم مغربي، فهو يحب الأكلة المغربية الشهيرة "الكسكسو"، وبالفعل هناك في أحد مطاعم المدينة تحدث رويز عن استطعامه للأكل المغربي، وعن صداقته لبعض الفنانين التشكيليين كفريد بلكاهية ومحمد شبعة، وكان دائماً ما يزور المغرب للقاء هؤلاء الأصدقاء.