يتراجع الأداء بشكل واضح في كل قطاعات الاقتصاد المصري في أعقاب اندلاع ثورة يناير وتطوراتها الملتبسة، من جراء الارتباك الواضح الذي يعانيه الحكم الانتقالي، والغموض الذي يهيمن على المشهد السياسي بشكل عام، والانفلات الأمني الذي يلقي بظلاله على الأنشطة الاستثمارية والتجارية في المقام الأول.

Ad

لكن ثمة قطاعاً يزدهر ازدهاراً غير مسبوق، فتتدفق عليه الاستثمارات، وتتزايد فيه التوسعات، وترتفع معدلات التوظيف فيه إلى أقصى درجة ممكنة في عقود خلت، كما تبلغ الأجور فيه حدوداً قياسية... إنه قطاع الإعلام.

تبدو مصر بعد أكثر من ستة شهور من اندلاع ثورتها في وضع اقتصادي صعب، رغم الآمال الكبيرة في تحقيق الانتقال الديمقراطي السلمي الذي سيقود البلاد إلى مرحلة من التقدم والنمو والتوزيع العادل للثروات.

فالاحتياطي النقدي يتراجع بصورة مطردة، وصناعة السياحة تمر بواحدة من أسوأ حالاتها على الإطلاق، والسوق العقارية راكدة، والاستثمارات الخارجية تتقلص، والبورصة تشهد انخفاضات متتالية، بينما تتعرض العملة الوطنية لضغوط.

لا شك أن تلك الصعاب كانت متوقعة لسبب أو لآخر، ولا شك أيضاً أنها صعاب طارئة، يمكن تجاوزها فور التوافق على الترتيبات السياسية للمرحلة المقبلة، لكن هذا لا ينفي أنها أبقت الاقتصاد في وضع صعب للغاية، وألقت بظلال على جدوى الاستثمارات الجديدة، ووضعت قيوداً على إطلاق المشروعات في شتى المجالات.

لكن الغريب حقاً أن تشهد صناعة الإعلام، في هذه الأثناء، ازدهاراً قياسياً لم تعرفه في أفضل الأوقات التي حقق فيها الاقتصاد المصري انتعاشاته الدفترية، حينما كانت معدلات النمو تقارب الـ7% سنوياً، والاستثمارات الخارجية تتدفق، والبورصة تشهد انتعاشاً، ومدخلات السياحة تتزايد باطراد، وعائدات تصدير النفط تواصل قفزاتها الواسعة.

لا يكاد يمر أسبوع في مصر ما بعد ثورة 25 يناير، إلا وتسمع عن إطلاق مشروع إعلامي جديد؛ سواء كان فضائية أو موقعاً إلكترونياً أو صحيفة مطبوعة، رغم تراجع عائدات الإعلان الصافية بنسبة تصل إلى 80% مقارنة بما كانت عليه قبل الثورة مباشرة.

تمثل عائدات الإعلان المصدر الرئيس لمدخلات صناعة الإعلام في مصر، ومع ذلك تنطلق عشرات المشروعات الإعلامية الجديدة من دون جدوى استثمارية تقريباً، حيث تتقلص تلك العائدات لأدنى معدلاتها، ولا يستطيع أحد أن يجزم بالموعد الذي يمكن أن ترجع فيه إلى معدلاتها الطبيعية، بالنظر إلى أن العودة إلى تلك المعدلات مرهونة بعمليات سياسية تخضع لتجاذب القوى الفاعلة وربما تناقضها وتناحرها.

لو قادتك الظروف للتجول في شوارع القاهرة وغيرها من المدن المصرية الكبرى لذهلت من حجم وسائل الدعاية المعلقة في معظم المناطق على الجدران والحوامل المعدنية؛ ومعظمها إعلانات لفضائيات وبرامج ونجوم إعلام وصحف جديدة.

إذا فتحت صفحات الصحف المصرية المختلفة فستجد تقلصاً في أعداد الإعلانات التجارية لأقصى درجة ممكنة، وفي المقابل ستجد تلك الصفحات مكتظة بإعلانات عن برامج فضائية أو مسلسلات أو صحف منافسة أخرى.

وفي المقابل، فإن القنوات الفضائية أيضاً باتت تعلن عن صحف جديدة صدرت للتو أو في طريقها إلى الصدور، رغم هذا الغموض الذي يكتنف المشهد السياسي، وذلك التراجع الاقتصادي الواضح، والهبوط القياسي في عائدات الإعلان.

لقد قرر عدد كبير من رجال الأعمال وممثلي المصالح المالية والسياسية لدول داخل الإقليم وخارجه، الدخول في وقت واحد إلى المشهد الإعلامي المصري، بغرض اتخاذ نقاط ارتكاز سياسية في الواقع الجديد، سعياً إلى محاولة تشكيله والتأثير في تطوراته، في الوقت الذي يبدو فيه أن عدداً من رجال الأعمال الذين حققوا ثراءً مشبوهاً في عصر مبارك يريدون غسل سمعتهم أوغسل أموالهم عبر الاستثمار في مجال الإعلام.

عدد ليس قليلاً من مالكي المشروعات الإعلامية الخاصة الرائجة قبل ثورة يناير كان يرتبط ارتباطاً مالياً وسياسياً بالنظام السابق، وعدد من هؤلاء تورط، أو ورد اسمه، في قضايا فساد كان يمكن أن تودي به إلى السجن مثل بعض زملائه الآخرين، لكن لسبب أو لآخر، فإن أياً من هؤلاء لم يخضع لتحقيقات متكاملة، ولم يصل إلى المحاكمة.

لقد ساد انطباع لدى كثيرين بأن امتلاك وسيلة إعلام رائجة واستخدامها لتحقيق أغراض سياسية ما لمصلحة جهة أو أخرى، يمكن أن يكون درعاً حامية لصحابها من المساءلة والتحقيقات ودخول السجن.

لذلك يمكن فهم الهجمة الكبيرة من المستثمرين على الاستثمار في قطاع الإعلام، كما يمكن فهم طبيعة الإنفاق السخي في هذا القطاع، والأجور المبالغ فيها، والتصميم غير الهادف إلى إدراك الجدوى الآن أو لاحقاً.

أحد مالكي وسائل الإعلام الصادرة عقب الثورة مباشرة أعلن رسمياً أن الشبكة الفضائية التي أطلقها لا تهدف إلى تحقيق الربح رغم أنماط إنفاقها غير المتوافقة مع اعتبارات الجدوى، بل إنه أكد أن "أي أرباح تأتي من الشبكة ستكون وقفاً لعمل الخير".

إنها المرة الأولى في التاريخ التي ستسمع فيها عن "وقف إعلامي"، لكن هذا حدث في مصر التي تشهد صراعاً على مستقبلها، يتخذ فيه الفاعلون السياسيون من الإعلام أدوات للتمركز والتأثير.

ستقود الفوضى والغزارة الراهنة مجال الإعلام في مصر إلى انفلات وتشظٍّ وتناحر غير محدود، وستضر بالمستثمرين الجادين وقد تطردهم من السوق، وقد تتحول إلى مراكز احتراب وإشاعة للفتن ومخالب وأدوات لقوى غير وطنية ودول قريبة وبعيدة.

ما يحدث في مصر الآن سبق أن حدث مثله في العراق وأندونيسيا وبعض دول أوروبا الشرقية في فترات تحولها الديمقراطي، لكن ما يجعل الأمر أصعب في الحالة المصرية، قدرتها على التأثير في محيطها وتصدير تفاعلاتها إليه.

مصر اليوم لا تنتج سوى الإعلام، لكنه إعلام غزير وملتبس وبعضه مشبوه... والمؤكد أنه أكثر من حاجتها وطاقتها، وأقل نزاهة ورشداً مما يجب، والأهم أنه قد يجلب لها مخاطر أكبر من قدرتها على التحمل.

* كاتب مصري