من يعارض تعديل المادة الثانية "يعارض الله والرسول"، هذا ما أكده المتحدثون في ندوة "صرخة شعبية لتعديل المادة الثانية من الدستور"... حجتهم بذلك الآية الكريمة: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئك هُمُ الْكَافرُون".

Ad

يمارس دعاة الدولة الدينية كعادتهم إرهابهم الفكري، حتى قبل تعديل المادة الثانية، في فرض وصايتهم وثقافتهم الإقصائية الأحادية التي لا تقبل الرأي الآخر حتى ضمن المذهب الواحد. فتلك الآية التي يستخدمها دعاة الدولة الدينية منذ زمن يفسرها معظم مفسري القرآن الثقاة، مثل القرطبي والسيوطي والطبري والزمخشري وغيرهم بأنها "نزلت في أهل الكتاب لأسباب ظرفية، بخصوص دية القتيل لديهم، وأنهم هم وحدهم المعنيون بهذه الآيات، لا المسلمون"، فمفردة الحكم في القرآن الكريم كما يبين المفكر محمد سعيد العشماوي (مستدلاً بالبراهين) ليس المقصود بها السلطة السياسية، إنما تحمل معاني مرتبطة "بالعدالة وميزان القضاء"، أما السلطة السياسية فهي لفظ "الأمر" في القرآن الكريم: "وشاورهم في الأمر".

ما أريد إيضاحه هنا هو أن هناك فرقاً بين النصوص المقدسة والتفسير البشري لها، فالنص الديني قابل للتفسير المتعدد، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قال إن "القرآن بين دَفتي المصحف لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال" و"القرآن حمال أوجه" أي إن القرآن لا يفسر نفسه بنفسه، إنما يفسره بشر، لذا فهو لا يعتمد على منهجية أحادية في التفسير تحتكر تأويل النص الديني، بل إن التفسيرات البشرية المختلفة هي التي تحدد المعنى النسبي للحقائق.

ومعظم الأمور الفقهية هي أمور خلافية غير متفق عليها، فمثلاً الولاية العامة للمرأة هي ضمن تلك القضايا التي اختلف فيها الفقهاء، كما رفض أبو حنيفة النعمان تأسيس الأحكام على الأحاديث التي تعتبر من "الآحاد"، كحديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، وإذا كانت معظم المسائل خلافية في اجتهاداتها البشرية المتعددة، فهي ليست ملزمة، إذن كيف ستلزمها المادة الثانية من الدستور؟

ثم إن دعاة الدولة الدينية لم يحددوا شكل الدولة التي يريدون، وأياً من المذاهب نتبع وما هي المرجعية؟ وأي نموذج من نماذج الدول الدينية؟ هل نتبع الخلافات التي توارثت عبر الأجيال وكرست الحكم الاستبدادي كما ينقله لنا مؤرخونا؟ أم نتبع نماذج الواقع الحالي للدول المجاورة لنا؟ أما المزهوون بوصول الأحزاب الإسلامية إلى الحكم في النموذجين التركي والماليزي فيجهلون أن سبب نجاح تجاربهم هو تمسك تلك الأحزاب بالدولة المدنية. فلنقرأ التاريخ الأوروبي والإسلامي ولنعتبر من تجارب الواقع الحالي، ولنستوعب الدروس في حقيقة أن الديمقراطية والدولة الدينية نقيضان لا يلتقيان... فقد تحالف "إسلاميونا" مع الحكومة 30 سنة واستولوا على السلطة والمال والنفوذ، وتآمروا مع الحكومة على وأد الدستور فصادروا الحريات وأدلجوا المناهج وأججوا الطائفية، واليوم يريدون أن يجثموا على الدستور ويسددوا الضربة القاضية.

إن تعديل المادة الثانية من الدستور سيحول بقايا الدولة المدنية إلى دولة دينية تفرض رؤى تستند إلى فهمها الخاص للنصوص... وهي بذلك تلغي الدور الحيادي للدولة التي تقف على مسافة واحدة من جميع المذاهب والأديان والتوجهات في حماية حقوقها جميعاً دون تحيز أو إلغاء. فأمراض مجتمعنا التي أبرزتها نتائج الانتخابات من طائفية وأصولية وعنصرية لا تعالج بالتحول إلى دولة دينية تجلب المزيد من الاحتقان والتوتر الطائفي، إنما بتعزيز الدولة المدنية الكفيلة بحفظ الوحدة الوطنية والتعددية.

استغلال الأدوات الديمقراطية لتقويض الديمقراطية ونسف ركائز الدولة المدنية لا يمت للممارسة الديمقراطية بصلة، بل هو انتهاك صارخ للدستور ومواد الحريات وللمادة 175 التي تقر عدم جواز تنقيح الدستور ما لم يكن التنقيح خاصاً "بالمزيد من ضمانات الحرية والمساواة"... وبعد هدم تلك المادة لن يبقى من الدولة الدستورية شيء سوى الأطلال والأحلام الضائعة.