- 1 -

Ad

المعركة الكبرى التي ستواجه الثورات العربية الحالية ليست معركة إسقاط الأنظمة الحاكمة، ولكن تحديث المجتمع نفسه، وتهيئته لتطبيق بعض الآليات الديمقراطية بعقلانية وواقعية تدرك ما يجري في العالم الآن من تغيرات تعتبر أهم من الثورة الفرنسية 1789، وأهم من الثورة الصناعية الأولى في إنكلترا، والثورة الصناعية الثانية (العصر الشمسي) والثورة الصناعية الثالثة الحالية (الطاقة المتجددة، وتكنولوجيا التخزين، وشبكات الكهرباء الذكية).

- 2 -

سلكت الدولة العربية الحديثة في عصر النهضة طريق "التحديث" وصولاً إلى "الحداثة"، كذلك سلكت الدولة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين هذه الطريق، إلا أن هذه الطرق كانت شبيهة بما كان يجري في أوروبا الشرقية، مع وجود نظم استبدادية عاتية، صادرت الحريات، ونفت المساواة، فالطريق إلى الحداثة، من الصعب أن يكون سالكاً ومُمهَداً ما لم نُطبِّق قيم "عصر الأنوار" في الحرية، والمساواة.

إن الطريق إلى الحداثة في العالم العربي، تبدأ بإنهاء الصراع بين المعسكرين المتنابذين (الأصولي والحداثي)، ووقف الإسقاطات التصفوية من كلا الجانبين، وإعادة استقراء الواقع، وما يحكمه من قوانين خارجية وداخلية من أجل اجتراح أسئلة وأجوبة جديدة، تنسجم مع المسائل المطروحة. والمطلوب، أن نذهب إلى ما بعد الإشكاليات السطحية المصدرة إلينا، لندرك الحدود المعرفية للأنماط الفكرية المستجلبة والمكرورة، وما يكمن وراءها من مخاطر تكريس عوامل التبعية.

- 3 -

إن الحداثة العقلية، تُحدث القطيعة مع اليقينات الدوغمائية للإيمان التقليدي، والمسلمات المتشنجة للنظام المغلق، كما قلنا في مقالنا السابق. ونحن نتحدث اليوم عن الحُر والشارد عن الحقيقة، كما كان الصوفي يُعبِّر عن حرقته ولوعته، وعن نقص إمكاناته ولغته، فيما يخص التوصل، للالتحام بمطلق الله، كما كان يقول الفيلسوف الجزائري الراحل محمد أركون ( "العلمنة والدين"، ص 43-44).

- 4 -

لن ندخل عصر الحداثة، إلا إذا بنينا تفكيرنا على العقل وحده، وإذا لم نكف عن محاربة العقلانية والمعقولية، وإعلان فشلها وفشل مشاريعها، وذلك بواسطة أسلحة التقليد، أو بواسطة دغدغة الشعور الديني، الذي في حقيقة أمره لا ينفي المعقولية.

فمن الواضح أن أمام حركة الحداثة العربية جهدا كبيرا وعملا مضنيا، لكي تستطيع الحداثة العربية أن تصل إلى طورها النهائي. وهذا الجهد الكبير، والعمل المُضني يتمثل بالآليات التي تؤدي إلى عقلنة الفكر العلمي، والسياسي، والتاريخي، كما يقول الباحثان التونسيان فتحي ورشيدة التريكي ("فلسفة الحداثة"، ص27).

فالهروب إلى التراث للبحث عن عناصر مفيدة للحياة الجديدة، لن يجدي الحداثة نفعا كثيراً، ولن يؤدي إلى طر يقها.

كذلك، فإن تلفيق الأفكار، وتركيب الأيديولوجيات على بعضها، فيما يمكن أن يُعرف بعملية الترقيع، لن يجدي أيضاً، ولن يؤدي إلى الحداثة. وأن الخلاص والوصول إلى الحداثة، لن يتم إلا بتطبيق أفكار وممارسة قيم عصر الأنوار السياسية والاجتماعية والفكرية، بكل أمانة، وإخلاص. وفي العمق، وليس على السطح، وفي القشور فقط، كما تمَّ في عصر النهضة العربية، وكما تمَّ من قبل الدولة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين.

- 5 -

النهضة هي الحداثة، والنهضة لا تتحقق بدون ذاتية حرة ومتحررة، أكيدة وواثقة من قوتها، ومن هنا، كان حل مشكلة الثقافة هي المسألة الأولى من مسائل النهضة، وتتضمن مسألة الثقافة عنصرين:

1- موقفنا من الثقافة العربية ومن التراث الذي يُعبِّر عنها.

2-  نظرتنا إلى طريقة حسم الصراع العميق القائم فيها بين القديم والحديث، أو بينها وبين الثقافة الغربية أو العصرية. كما يقول المفكر والناشط السياسي السوري برهان غليون ("اغتيال العقل"، ص308).

أما المفكر التونسي العفيف الأخضر فيؤكد لنا بحدة شديدة، أن الشعوب التي استطاعت الدخول إلى الحداثة هي تلك التي نجحت في فك تماهيها مع ماضيها. فألمانيا لم تدخل الحداثة إلا بعد إقامة الحداد مرتين على تراثها، وكذلك فعلت اليابان في 1868 و1945. أما كيف نقيم نحن الحداد على ما فات ومات، فذلك يتجلى في إعادة هيكلة مؤسستي التعليم والإعلام، ليقرأ الطالب والقارئ "بواتييه" بدلاً من بلاط الشهداء، من دون تحسّر على عدم فتح فرنسا، و"الأندلس"، بدلاً من "الجنة الضائعة"، بلا تفكير بالعودة إليها إلا كسائح. ورفع خريطة فلسطين الانتدابية من الكتب المدرسية، وتعويضها بخارطة الأراضي المحتلة في 1967، ووضع حد في الكتب المدرسية لكل أسف على إلغاء أتاتورك للخلافة، وتطهير الكتب المدرسية من كل ما يشيطن المرأة، وهدف ذلك إعادة تأسيس كيانات ديمقراطية فيديرالية هنا، ولا مركزية هناك، تتصالح مع شعوبها ومع العالم، وتنسى الثارات القديمة والحديثة لتتعلم إنجاز مهام التنمية المستديمة التي فيها نكون أو لا نكون.

ويضيف الأخضر قائلاً: "تبدو الحداثة بما هي انخراط في المجتمع الدولي المعاصر باقتصاده المعولم والمتدامج وهيئاته الدولية التي اقتطعت لنفسها أجزاء بكاملها من السيادة القومية التي كانت إلى عهد قريب من اختصاص الدولة الحصري، وبقيمه الكونية التي لا يمر انتهاكها دون عتاب فعلي أو رمزي، رهاناً لكل مشروع مجتمعي جدير بهذا الاسم".

- 6 -

وعلى عكس معظم المفكرين العرب المعاصرين، يعتبر العفيف الأخضر أن الحداثة يمكن استيرادها من الخارج، وينفي ما يقوله بعض المفكرين العرب المعاصرين كمحمد الجابري من أن الحداثة لا تستورد كسلعة من الغرب، ولا بُدَّ من صنعها من داخل تراثنا الإسلامي، مستشهداً بما حصل في عصر النهضة الأوروبية، عندما استلهم مثقفوها الحداثة من داخل الثقافة الأوروبية، لا من خارجها. ويعتبر الأخضر أن هذه المقولة جهلاً فاضحاً في تاريخ الحداثة الأوروبية وعصر النهضة بالذات.

ومنذ القرن العشرين، وخاصة الآن، أصبحت الحداثة خارجية المنشأ، فالرساميل والتكنولوجيا– وهما أساس كل حداثة– لا يمكن توافرهما إلا في السوق الدولية، والسوق القومية لم تعد مجالاً للمراكمة الرأسمالية، التي بات مجالها السوق العالمية. بلدان جنوب شرق آسيا دخلت الحداثة بواسطة الشركات العابرة للقارات. فتسعون في المئة من صادرات ماليزيا من إنتاج هذه الشركات، ولا دخل للإنتاج القومي فيها، وهذا هو المثال الذي يجب أن يُحتذى.  وهذه التحديات الحداثية، هي تلك التي تواجه الآن الثورات العربية، التي انتصرت، والتي في طريقها إلى النصر، والتي لم تبدأ بعد طريق النصر!

* كاتب أردني