متى ندخل العصر الجديد؟
"في السياسة كل الوسائل مباحة فلا مانع من الخداع والقسوة والتلبس برداء الأخلاق والدين من أجل تحقيق غاية محددة... فالغاية تبرر الوسيلة".هذا هو جوهر رسالة مكيافيلي في كتابه "الأمير" الذي أهداه إلى الأمير الإيطالي لورنزو في عصر النهضة، وهي عبارة عن نصائح وضَّح من خلالها مكيافيلي أن غاية المحافظة على الحكم المطلق وتوسيع نفوذه تبرر كل الطرق والوسائل التي تؤدي إليها دون الاهتمام بالقيم أو المبادئ، فلا مانع من كذب الحكومات وعدم التزامها بالوعود التي قطعتها، ولا مانع من كف البصر عن المظالم والتغاضي عن تفشي الفساد في سبيل تلك الغاية.
يضرب مكيافيلي مثلاً بالبابا اليكساندر السادس الذي يُظهِر رحمته وتدينه، ويقدم العهود للناس ويقسم على الالتزام بها، إلا أنه لا يتورع عن خداعهم وتضليلهم في مخالفتها، فبذكائه ضمن سكوت الجمهور المتدين الذي لا يحكم بإدراكه إنما بأذنيه وعينيه.دعا مكيافيلي إلى إغداق المقربين من الحكم بالامتيازات والترضيات والنفوذ والمال ليساندوه ويدعموه ويصبحوا الواجهة التي تحميه من غضب الشعب، فالخير يُنسَب إليه أما الشر فإليهم. يرجع مكيافيلي سبب سقوط الحكام وانهيار دولهم إلى التزامهم بالعدل والحق والأخلاق، فلا أخلاق في السياسة... وقد كان لنصائحه الأثر الكبير في تأسيس الاستبداد السياسي لعصر الفاشية الأوروبية، ذلك العصر الذي أفل في أوروبا، إلا أنه لايزال بازغاً في عالمنا العربي القروسطي، وكأنما يقرأ معظم حكامه كتاب مكيافيلي كل يوم قبل النوم كما كان يفعل هتلر... لقد قضت قيم الحداثة التي أسسها فلاسفة التنوير على تلك الفلسفة البائدة، وأثبتت ضحالة فكرها في ترسيخ الاستقرار السياسي والتنمية والتقدم... وما الربيع العربي إلا مرحلة مخاض عسيرة لشرقنا البائس، بعد أن أخفقت حكوماته في قراءة التحولات الجذرية للشعوب المشحونة بالطاقات الثورية والمتعطشة للقيم الكونية كالحرية والعدالة.فإما أن تتمخض الاحتجاجات والثورات وتلد فأراً، فيحل استبداد آخر محل الاستبداد القديم، أو أن تنجح في ولادة نظام جديد يحل محل النظام القديم المتهالك لينتقل عبره من العالم القديم إلى العالم الجديد، بحيث يستبدل فيه المنطق القديم لقوة أمن الدولة بمنطق "القوة اللينة" كحكم القانون والتنمية الإنسانية والحكم الرشيد والمواطنة الصالحة. ذلك النظام الذي تترسّخ فيه قيم العقد الاجتماعي الحقيقي كما أسسه روسو، والديمقراطية الحقيقية التي تمنع استبداد الأغلبية وتحفظ حقوق الأقليات، تلك الديمقراطية التي لا تتحقق إلا بترسيخ مفهوم مونتسكيو للفصل بين السلطات الذي يقيد سلطات الحكومة ويمنع طغيانها وسوء استغلالها للسلطتين التشريعية والقضائية ويمكن من محاسبتهما لها.لن يكون ولوج عصر التنوير العربي ممكناً ما لم يخرج الإنسان "عن مرحلة القصور العقلي... ويبلغ سن النضج أو سن الرشد" كما يصف فيلسوف التنوير كانط. فغياب الحرية الفردية في أوطاننا والعجز عن التفكير بعيداً عن وصايا القبيلة والطائفة أبقيا عقولنا مقيدة بالسلاسل الصدئة للنعرات الطائفية والقومية. ولا دواء لداء التعصب والعنصرية إلا بمفهوم التسامح الذي كتب عنه جون لوك، فحين يغيب التسامح، الذي تتمحور حوله الفلسفة الليبرالية، تنشأ السلطة المطلقة ويخلط المقدس بشؤون الدنيا ويفرض الرأي الواحد، وما صفحات التاريخ الملطخة بالدماء إلا دروس وعبر.فمتى نخرج من خريف المكيافيلية لندخل ربيع التنوير وما بعده؟ لن يحدث التغيير في أيام ولا أشهر بل ربما سنوات، قالها ونستون تشرتشل يوما: "ليس عندي ما أعدكم به غير الدم والعرق والدموع".