ليبيا بعد القذافي

نشر في 19-07-2011
آخر تحديث 19-07-2011 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت إن الحكام المستبدين في الشرق الأوسط عادة ما يحذرون شعوبهم من أنهار الدماء والفساد الغربي والفقر والفوضى و»القاعدة» لو تم إسقاط أنظمتهم. لقد تم سماع تلك التهديدات في تونس ومصر واليمن والبحرين وسورية وفي ما يشبه الكوميديا السوداء في ليبيا أيضا، لكن هناك اعتقادا قويا في المنطقة بأن تكلفة الإطاحة بتلك الأنظمة المستبدة مهما كانت مرتفعة فهي في واقع الأمر ثمن بخس مقارنة بالضرر الذي قام به الحكام الحاليون، أي باختصار فإن الحرية تساوي الثمن المدفوع.

أما في ليبيا فهناك أربعة سيناريوهات قد تؤثر سلبا في احتمالات تحقيق الديمقراطية هناك وهي: الحرب الأهلية-القبلية والحكم العسكري، وأن تصبح ليبيا عالقة في وضع انتقالي دائم والتقسيم، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الثمن الباهظ الذي دفعه الليبيون فإنه يجب منع حصول تلك السيناريوهات بدلا من محاولة معالجتها.

إن الحرب الأهلية -القبلية هي أسوأ مخاطرة، والثوار المصريون فهموا ذلك، فعندما اندلع العنف الطائفي هناك لاحقا للإطاحة بحسني مبارك، تبنت التحالفات الثورية شعار «لن ندعك تفرح بذلك يا مبارك». إن الأنظمة الدكتاتورية القمعية لا تستطيع أن تفوز من خلال انتخابات حرة وعادلة لكن بإمكان تلك الأنظمة استخدام العنف الشديد من أجل تدعيم سيطرتها على الدولة وشعبها ومؤسساتها.

وعليه ومن أجل أن يربح العقيد الليبي معمر القذافي فقد نجح في تحقيق هدفه المتمثل بتحويل حملة المقاومة المدنية إلى صراع مسلح، علما أنه سوف يكون لذلك تداعيات في سياق ما بعد الحكم الاستبدادي. لقد أظهرت دراسة نشرتها جامعة كولومبيا عن المقاومة المدنية أن احتمالية أن تنجر الدولة إلى حرب أهلية بعد حملة مسلحة ناجحة ضد الدكتاتورية هي 43% ولكن هذه الاحتمالية تقل إلى 28% عندما تكون الحملة غير مسلحة.

طبقا لنفس الدراسة المبنية على أساس 323 حملة معارضة مسلحة وغير مسلحة بين سنة 1900 الى سنة 2006 فإن احتمالية حصول تحول ديمقراطي خلال خمس سنوات لاحقا لحملة معارضة مسلحة ناجحة هي فقط 3% مقارنة بنسبة 51% عندما تكون الحملات غير مسلحة.

بالطبع فإن بامكان ليبيا أن تنجو من الاحتمالية الكئيبة لحصول حرب أهلية في فترة ما بعد الحكم الاستبدادي، ولكن هذا يتطلب احتواء الاستقطاب القبلي والإقليمي، بالإضافة إلى التنافس بين المجلس الوطني الانتقالي والمجلس العسكري وبين كبار القادة العسكريين. لقد نشأ استقطاب عنيف ليس فقط بين القبائل الشرقية والغربية ولكن أيضا بين بعض القبائل الغربية.

فعلى سبيل المثال في الشهر الماضي اندلعت الاشتباكات بين الثوار في الزنتان والقرويين في الريانية والتي تبعد 15 كيلومترا، حيث أدت تلك الاشتباكات إلى مصرع ستة أشخاص، وهذا يذكرنا بما يمكن أن يحصل لو استمر هذا الاستقطاب العنيف بين البلدات والقرى المتجاورة. إن السياسات الثأرية ليست غريبة عن ليبيا وفي مجتمع مسلح يضم أكثر من 120 قبيلة بما في ذلك 30 قبيلة تضم أعدادا وموارد كبيرة فإن تلك السياسات قد تصبح خطيرة للغاية.

إن السيناريو السلبي الآخر هو الحكم العسكري، وإن هناك عدة شخصيات من مجموعة الضباط الأحرار– المجموعة التي خططت لانقلاب سنة 1969 ضد الملكية- تقود المجلس الوطني الانتقالي ومن بين هؤلاء الجنرال عبدالفتاح يونس والجنرال سليمان محمود والعقيد خليفة حفتر والرائد محمد نجم وآخرون.

إن تلك الشخصيات تتمتع بخليط من الشرعية التاريخية لمشاركتهم في انقلاب سنة 1969 وشرعية حالية لمساعدتهم ثورة السابع عشر من فبراير، كما أنهم ينتمون إلى عدة قبائل كبيرة مما يعني ضمان تمثيل قبلي واسع لو تولى مجلس عسكري السلطة كما هي الحال في مصر.

لكن بخلاف مصر فإن أي جهة تتولى السلطة في ليبيا لن ترث بالضرورة ظروفا اقتصادية فقيرة قد تهدد شرعيتها وتقوض شعبيتها. إن هذا يمكن أن يدفع مجموعة من كبار الضباط لأن يحكموا مباشرة، وخاصة إذا جاء النصر في ليبيا عسكريا. وإن أي تحرك من قبل ضباط الجيش في طرابلس ضد القذافي وأبنائه قد ينهي الصراع مع حصول القادة العسكريين على السمعة الطيبة والرصيد السياسي.

لكن أربعة عقود من الدكتاتورية العسكرية يمكن أن تكون كافية لليبيين، علما أن معظمهم لم يستفد على الإطلاق من ثروة البلاد أو إمكاناتها، فعندما يأتي الأمر لصناعة الإرهابيين والمهاجرين غير الشرعيين– وهما قضيتان حيويتان بالنسبة إلى أوروبا- فإن المستبدين العسكريين العرب لديهم سجل حافل، فالجزائر في التسعينيات هي بمنزلة تذكير قوي في هذا الخصوص والحكومات الغربية لا تريد الحلقة المفرغة من المتدينيين العنيفين واللاجئين والذين هم عبارة عن صناعة المستبدين القمعيين، بأن تبدأ من جديد.

إن السيناريو الثالث المحتمل هو أن تعلق ليبيا في مرحلة انتقالية، مما يعني أن تبقى ليبيا في المنطقة الرمادية– ليست ديمقراطية كاملة وليست دكتاتورية– أي «شبة حرة»، وإن هذا يعني انتخابات دورية ودستورا ديمقراطيا ومجتمعا مدنيا مع تزوير انتخابي وتمثيل منحرف وانتهاكات لحقوق الإنسان وقيود على الحريات المدنية. أن يعلق بلد ما في المرحلة الانتقالية عادة ما يقتل الزخم للتغيير الديمقراطي كما أن انتشار الفساد ووجود مؤسسات دولة ضعيفة وانعدام الأمن كلها تعزز من أسطورة «المستبد العادل». وإن حكم فلاديمير بوتين في روسيا يوضح هذه النتيجة.

للأسف لقد أظهرت دراسة نشرتها مجلة الديمقراطية أنه من بين 100 بلد تم وصفها بأنها في مرحلة انتقالية بين سنة 1970-2000 فإن 20 دولة فقط أصبحت ديمقراطية بالكامل (على سبيل المثال تشيلي والأرجنتين وبولندا وتايوان) وخمسا عادت لتصبح دولا دكتاتورية متوحشة (بما في ذلك أوزبكستان والجزائر وتركمانستان وروسيا البيضاء) ببنما بقيت الدول المتبقية عالقة في المرحلة الانتقالية.

لو أخذنا بعين الاعتبار نقص الخبرة الديمقراطية في ليبيا فإن البعض يعتقد أن النتيجة أعلاه هي نتيجة محتملة في مرحلة ما بعد القذافي، لكن ليبيا ليست البلد الوحيد الذي حاول الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية مع وجود مؤسسات ضعيفة وعوامل قبلية قوية.

لقد تمكنت ألبانيا ومنغوليا والهند من تخطي اختبارات أكثر تعقيدا، وقدمت بعض الدروس المفيدة في التحول الديمقراطي تحت ظل ظروف غير مواتية.

إن السيناريو الرابع هو التقسيم، حيث يوجد هناك من يذكر الثلاثة أقاليم القديمة التي كانت تحت ظل الحكم العثماني وهي: سيرناسيا في الشرق، وفزان في الجنوب، وتريبوليتانيا في الغرب، أما سيرناسيا فلقد تحررت من القذافي وتريبوليتانيا لا تزل في قبضة القذافي وفزان لم تنضم للثورة بشكل كامل، لكن الحدود الإدارية لتلك المناطق لم تترسخ بشكل كامل ولقد تغيرت على الاقل ثماني مرات منذ سنة 1951 وفي سنة 2007 كان في ليبيا 22 شعبية وليس ثلاثة.

إن كل تلك السيناريوهات سوف تتأثر بما سوف يحصل في مصر وتونس، ففي حالة التحول الديمقراطي فإن وجود نجاح قريب عادة ما يكون من العوامل المساعدة، وإن أيا من مصر أو تونس أو كلتيهما يمكن أن تقدما إلى ليبيا نماذج ناجحة في التحول الديمقراطي، مما يعني وضع عائق مهم في وجه الدكتاتورية العسكرية أو الحرب الأهلية.

* د. عمر عاشور، كبير محاضرين ومدير برنامج الدراسات العليا في سياسة الشرق الأوسط بجامعة إكستر البريطانية، وزميل زائر لدى مركز بروكنجز بالدوحة. وهو مؤلف كتاب "تحولات الحركات الإسلامية المسلحة"، ودراستي "تحولات الإسلاميين في الجزائر: نجاحات وإخفاقات"، و"إصلاح القطاع الأمني في مصر: المعضلات والتحديات".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top