لقد أصبح مصطلح "الربيع العربي" مثار جدل بالفعل، فهل تبشر الثورات التي اندلعت في أنحاء العالم العربي المختلفة بأيام صيف مجيدة، أم أنها كانت بمنزلة معبر إلى شتاء كئيب؟ هناك أمر واحد مؤكد: وهو التأثير الواضح للدين والعقيدة الإيمانية في النتائج.

Ad

ولنتأمل حجم الأحداث الحالية.

في أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المختلفة، تشهد الأحزاب الإسلامية صعوداً واضحاً، وكانت الانقسامات بين السنّة والشيعة في الصدارة أيضاً، والآن يعمل الإرهاب القائم على تحريف الدين على تشويه السياسة، ليس في المناطق المعتادة فحسب، بل في نيجيريا وروسيا وكازاخستان والفلبين وأماكن أخرى من العالم، أيضاً، بل إن أكثر من نصف الصراعات التي يشهدها العالم اليوم تحمل بعداً دينياً غالباً.

إن أغلب المعتقدات الدينية اليوم (وليس كلها بطبيعة الحال) تحتوي على جماعات متطرفة، وكلها قادرة على بث الفتنة بين مجتمعات كانت مستقرة في الماضي. صحيح أن الكثير من التطرف يقوم على صورة محرفة للإسلام؛ ولكن مثل هذه الانحرافات المشوهة للعقيدة الإيمانية كثيراً ما توجه ضد مسلمين أيضاً، ففي أجزاء من أوروبا ينافس رهاب الإسلام (إسلاموفوبيا) معاداة السامية وبات يتسم بقدر قوي وخطير من الجاذبية السياسية.

باختصار، يشكل الدين عاملاً بالغ الأهمية، فقبل ثلاثة أعوام ونصف العام، عندما أنشأت مؤسسة مكرسة لتحسين العلاقات بين الأديان، تصور البعض أنها فكرة خيالية، أو شاذة: فما الذي قد يحمل رئيس وزراء سابق على القيام بأمر كهذا؟

إن السبب في تصوري بسيط للغاية، فبفضل خبرتي كرئيس للوزراء تعلمت أن كل المشكلات في الشرق الأوسط وما وراءه- بما في ذلك إيران وأفغانستان وباكستان والصومال- لا يمكن فهمها إلا من خلال التوصل إلى فهم واضح لأهمية الدين، وأنا لا أعني الدين كسياسة، بل الدين كدين، فمن غير الجائز أن نتعامل مع تأثير العقيدة الإيمانية من منظور علماني بحت، بل يتعين علينا أن نتعامل معه باعتباره قضية إيمانية حقيقية.

والواقع أن نقطة الضعف الأساسية التي تعيب السياسة الخارجية، خصوصاً في الغرب، تتلخص في افتراض مفاده أن الحلول السياسية وحدها القادرة على توفير مسار معقول إلى المستقبل، وهذا غير صحيح، فلابد من إقناع هؤلاء الذين يشعرون بأن دينهم يلزمهم بالتصرف على نحو مدمر للاحترام المتبادل بأن قراءتهم لعقيدتهم الإيمانية خاطئة؛ وإلا فإن مثل هذا الدافع القائم على العقيدة الإيمانية سيظل متفوقاً على الحجج السياسية العلمانية.

ولنتأمل هنا الحال في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا اليوم، شئنا أم أبينا فإن جماعة "الإخوان المسلمين" وغيرها من الأحزاب الدينية من المرجح أن تهيمن، فهي جماعات تتسم منذ أمد بعيد بالتنظيم الجيد وتعمق جذورها في مجتمعاتها، وهي جماعات شديدة التحفيز، وهي تركيبة تضمن الفوز في أي مكان، وتحتشد ضد هذه الجماعات السياسات المخزية التي انتهجتها الأنظمة القديمة فضلاً عن الجماعات الليبرالية الفِكر والتي تتسم بكثرة العدد لكنها غير منظمة إلى حد كبير.

إن الخطر الذي نواجهه جميعاً سهل التوصيف، والتحدي الذي يواجه هذه الديمقراطيات الناشئة يتلخص في التمسك بالديمقراطية رغم صدمات التغيير الشامل، وبشكل خاص يحتاج الاقتصاد هناك إلى الإصلاح، والانفتاح، والنمو حتى يتسنى لهذه الديمقراطيات أن تلبي التطلعات المتزايدة لمواطنيها.

والواقع أن المنطقة لديها بعض التجمعات السكانية الأصغر سناً في العالم، حيث لا يتجاوز متوسط العمر غالباً ثلاثين عاما، وفي خمسينيات القرن العشرين كان تعداد سكان مصر ثلاثين مليون نسمة تقريباً؛ واليوم اقترب تعداد سكانها من تسعين مليون نسمة. ومن المؤكد أن السكان من الشباب الطامحين، والذين كان انتقادهم للنظام القديم اقتصادياً بقدر ما كان سياسياً، يحتاجون إلى عودة صناعة السياحة إلى الوقوف على قدميها من جديد، وعودة الثقة إلى رجال المال والأعمال، وعودة المستثمرين الأجانب المتحمسين.

وهم في احتياج إلى إصلاحات جوهرية لنظام التعليم والرعاية الاجتماعية، وينبغي للقادة السياسيين الجدد أن يدركوا أن الناس يملكون كل الحق في طردهم من السلطة بالتصويت ضدهم إذا فشلوا في تحقيق هذه الطموحات وتلبية هذه الاحتياجات.

ولكن الديمقراطية لا تنتهي عند الانتخابات الحرة وحكم الأغلبية الدستوري، بل إنها تقوم على حرية التعبير، وحرية الدين، وحصول الأسواق على القدر الكافي من الحرية والقدرة على توقع اتجاهاتها، رغم خضوعها للتنظيم، أو بعبارة أخرى، الديمقراطية ليست مجرد نظام للتصويت، بل هي في نهاية المطاف سلوك متفتح.

ويتسم هذا التمييز- الانفتاح في مواجهة الانغلاق- بالبروز على الصعيد السياسي اليوم على نحو أشبه بالتمييز التقليدي بين اليسار واليمين، ولكن هل ننظر إلى العولمة- حيث تدفعنا التكنولوجيا والاتصالات والهجرة والسفر إلى التقارب- بوصفها نظاماً لابد من تبنيه ولكن بعد جعله أكثر عدالة، أم باعتبارها تهديداً لطريقتنا التقليدية في ممارسة حياتنا ولابد من مقاومتها؟ أعتقد أن المستقبل سيكون لمصلحة المتفتحين، لكن المنغلقين يتمتعون بجاذبية قوية يساهم الدين في تعزيزها.

هناك وجهان للإيمان في عالم اليوم: الأول لا يُرى في سلوكيات التطرف الديني فحسب، بل أيضاً في رغبة المتدينين في ارتداء معتقداتهم الإيمانية كشعار أو شارة للهوية في معارضة أولئك الذين يختلفون معهم، ويتجلى الوجه الثاني في أعمال التضحية والرحمة غير العادية؛ على سبيل المثال، في رعاية المرضى والمعوقين والمعدمين.

هناك إذن وجه يسعى إلى خدمة الآخرين؛ ووجه آخر يرفضهم، وجه يقر بأن الكرامة المتساوية حق لكل البشر، ويسعى إلى بناء جسور من التفاهم بين الأديان، والآخر ينظر إلى أولئك الذين لا ينتمون إلى نفس العقيدة الإيمانية باعتبارهم كفاراً تافهين، ويسعى إلى بناء أسوار واقية حول هذه العقيدة، أو حتى مناصبة "الغرباء" العداء.

وتدور هذه المعركة بين وجهي الإيمان في أنحاء العالم المختلفة اليوم، ونحن في احتياج الآن إلى منابر لتعزيز التفاهم والاحترام المتبادل، ومد يد العون والتأييد للنظرة المتفتحة للدين.

ويؤدي التعليم دوراً بالغ الأهمية في هذا السياق، فكم عدد المسيحيين الذين يعرفون أن المسيح عليه السلام يحترمه المسلمون ويبجلونه كنبي، أو أن المفكرين المسيحيين أدركوا من جديد أهمية أرسطو وأفلاطون بفضل علماء الإسلام في القرن الحادي عشر؟ وكم عدد المسلمين الذين يفهمون بشكل كامل حركة الإصلاح الديني المسيحية وما تعلمه المؤمنون بالمسيحية من هذه الحركة عن الفلسفة والدين؟ وإلى أي مدى يدرك المسلمون أو المسيحيون حقاً أنهم مدينون لليهودية؟ وهل نتمتع نحن في الغرب بأي تقدير حقيقي للطبيعة الحقيقية لعقائد إيمانية مثل الهندوسية والبوذية؟ وهل نفهم كيف طورت عقيدة السيخ انفتاحها غير العادي على كل الأديان؟ وهل نفهم حقيقة البهائيين وما يؤمنون به؟

المقصود هنا هو أن الإيمان ثقافة؛ وفي عالم اليوم يتواصل البشر من الثقافات المختلفة كما لم يحدث من قبل قط، ويتوقف ما قد يسفر عنه هذا التواصل من انسجام أو تنافر على أطرنا العقلية؛ هل هي منفتحة أم منغلقة؟ ولكن هل يتمكن الإيمان الديني القوي من التعايش مع مثل هذا القدر من التعددية؟

هذا هو السؤال الرئيس في عصرنا، وعلى الرغم من ذلك فإن العديد من المنفتحين من البشر يتسمون بالسلبية إلى حد عجيب في مواجهة التطرف الديني. فنحن في بعض الأحيان نتجاهله وكأننا قادرون على التعامل معه باعتباره شيئاً آخر غير الدين، وفي بعض الأحيان قد نستسلم ونتبنى العلمانية، ولكن الموقف الأول يتجاهل جوهر المشكلة؛ ويعمل الموقف الثاني على تقويض الإيمان، الذي لايزال يؤدي دوراً بالغ الأهمية في تطعيم العولمة بالتحضر وتشريبها بالروحانية.

باختصار، نحن في احتياج إلى ديمقراطية ودودة في التعامل مع الدين، ودين ودود في التعامل مع الديمقراطية، وفي هذا الوقت من الاحتفال بالأعياد المسيحية، يُعَد هذا بمنزلة رسالة مهمة كان المسيح عليه السلام سيوافق عليها تماماً في اعتقادي.

* توني بلير، رئيس وزراء المملكة المتحدة من 1997 إلى 2007 وهو رئيس مبادرة الحكم لإفريقيا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»